ويبدأُ موسى- عليه السلام- في دعوةِ فرعون وملئه، ويصرُّ أولئكَ على الكُفرِ والمعاندة، ويستمرُ بلينِ الدعاةِ بالقولِ تارةً وبالحجةِ الباهرةِ تارة، ويؤكدُ موسى وهارون- عليهما السلام- نبوتهما بالبراهينِ القاطعةِ، والمعجزات الظاهرة، ويظلُّ الحوارُ مع فرعون صريحاً جاداً تظهرُ فيه الربوبيةَ الحقَّة للهِ رب العالمين، وتسلُخها من فرعونَ الدعي العنيد، وتنسفُ الدعوةَ الكاذبة، ويظهرُ الحقُّ رُغم المكابرةِ والاستهزاءِ والتهديد: ((قَالَ فِرْعَوْنُ وَمَا رَبُّ الْعَالَمِينَ، قَالَ رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا إِنْ كُنْتُمْ مُوقِنِينَ، قَالَ لِمَنْ حَوْلَهُ أَلا تَسْتَمِعُونَ، قَالَ رَبُّكُمْ وَرَبُّ آبَائِكُمُ الْأَوَّلِينَ، قَالَ إِنَّ رَسُولَكُمُ الَّذِي أُرْسِلَ إِلَيْكُمْ لَمَجْنُونٌ، قَالَ رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَمَا بَيْنَهُمَا إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ)) [الشعراء:23 – 28]
وحين شعرَ فرعونُ أنَّ موسى- عليه السلام- قد غلبهُ بالحُجةِ والبرهان، لجأ إلى القوةِ والسلطان، وهددَ بسجنِ موسى إنَّ هو عبدَ الله وحدهُ، ورفض ما عليه الناس من عبودية فرعون: ((قَالَ لَئِنِ اتَّخَذْتَ إِلَهاً غَيْرِي لَأَجْعَلَنَّكَ مِنَ الْمَسْجُونِينَ))
[الشعراء:29].
وحين نتجاوز كثيراً من المشاهدِ والمواقفِ، ونصلُ إلى نهايةِ القصةِ نجدُ العبرةَ فيها والدروسَ أبلغ، وموسى والمؤمنون معه يفرون بدينهم من وجه الطاغية بأمر الله، ويصر فرعون وجنده على اللحاق بهم، بل ويرسل فرعون في المدائن حاشرين، ويقول عن المؤمنين: ((إِنَّ هَؤُلاءِ لَشِرْذِمَةٌ قَلِيلُونَ، وَإِنَّهُمْ لَنَا لَغَائِظُونَ، وَإِنَّا لَجَمِيعٌ حَاذِرُونَ)) [الشعراء:54 – 56].
و يبلغُ الكربُ بالمؤمنين نهايته، والبحرُ أمامهم والعدوُ خلفهم، وهم لا يَدرون ماذا في غيبِ الله وعلمهِ ((فَلَمَّا تَرَاءَى الْجَمْعَانِ قَالَ أَصْحَابُ مُوسَى إِنَّا لَمُدْرَكُونَ، قَالَ كَلَّا إِنَّ مَعِيَ رَبِّي سَيَهْدِ ينِ، فَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى أَنِ اضْرِبْ بِعَصَاكَ الْبَحْرَ فَانْفَلَقَ فَكَانَ كُلُّ فِرْقٍ كَالطَّوْدِ الْعَظِيمِ،وَأَزْلَفْنَا ثَمَّ الْآخَرِينَ، وَأَنْجَيْنَا مُوسَى وَمَنْ مَعَهُ أَجْمَعِينَ، ثُمَّ أَغْرَقْنَا الْآخَرِينَ، إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ، وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ)) [الشعراء:61 – 68].
وبين البدءِ والنهايةِ في هذه الملحمةِ العظيمةِ، التي وقعت في اليومِ العاشرِ من هذا الشهر، شهرُ الله المحرم، عددٌ من الدروسِ والعبرِ المُهمة، ومنها:
الدرس الأول: أنَّ نورَ اللهِ مهما حاولَ المجرمون طمسَ معالمه، وأنَّ الطغاةَ وإن أثروا في عقولِ الدهماءِ فترةً من الزمنِ، واستمالوهم بالمنحِ والعطايا، فإنَّ القلوبَ بيدِ الله، يُصرفها كيف يشاء، وتأملوا في حالِ فرعون وسحرته، وكم وعدوا لقاءَ مواجهتهم موسى، ومع ذلك انقلبوا فجأةً عليه، واستهانوا بما وعد به حين أبصروا دلائل الإيمان، ولاذوا بحمى الملكِ الديَّان، فكانوا أولَّ النهار سحرة، وآخرهُ شُهداء بررة.
((وَجَاءَ السَّحَرَةُ فِرْعَوْنَ قَالُوا إِنَّ لَنَا لَأَجْراً إِنْ كُنَّا نَحْنُ الْغَالِبِينَ، قَالَ نَعَمْ وَإِنَّكُمْ لَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ، قَالُوا يَا مُوسَى إِمَّا أَنْ تُلْقِيَ وَإِمَّا أَنْ نَكُونَ نَحْنُ الْمُلْقِينَ، قَالَ أَلْقُوا فَلَمَّا أَلْقَوْا سَحَرُوا أَعْيُنَ النَّاسِ وَاسْتَرْهَبُوهُمْ وَجَاءُوا بِسِحْرٍ عَظِيمٍ، وَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى أَنْ أَلْقِ عَصَاكَ فَإِذَا هِيَ تَلْقَفُ مَا يَأْفِكُونَ، فَوَقَعَ الْحَقُّ وَبَطَلَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ، فَغُلِبُوا هُنَالِكَ وَانْقَلَبُوا صَاغِرِينَ، وَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ سَاجِدِينَ، قَالُوا آمَنَّا بِرَبِّ الْعَالَمِينَ،رَبِّ مُوسَى وَهَارُونَ)) [الأعراف:113 - 122]
إنَّهُ موقفٌ من المواقفِ الحاسمةِ في تاريخِ البشريةِ، هذا الموقفُ بينَ فرعون وملئه، والمؤمنين من السحرةِ السابقين.
وإنَّهُ لموقفٌ حاسمٌ ينتهي بانتصارِ العقيدةِ على الحياة، وانتصارِ العزيمةِ على الألم، وانتصار الإنسان على الشيطان.
¥