وإذا كنت يا أبا حسان تقصد بـ"الإغراق بالسلفية" التعمق في أقوال السلف؛ فلا شك أن هذا التعمق أمر مطلوب لكنه لا يقابل العقل والتجديد وإنما يتداخل معهما، أما إذا قصدت بذلك الإمعان في الاحتجاج بالراويات الضعيفة الواهية التي لا ثبوت لها بدلا من إعمال العقل فيها ومقارنتها بالروايات الصحيحة فأنا أوافقك؛ ولكن طرحك لا يدل على هذا المعنى الأخير.

مفهوم العقل:

الشيء المشترك بيننا وبين الصحابة هو العقل وأوافق الأخ أبو حسان في ذلك كل الموافقة، والعقل هو القوة الإدراكية في الإنسان والتي يستطيع عن طريقها إدراك العلوم وتحصيل المعارف.

والعقل هو آلة التمييز وهو المدرك للأشياء على ما هي عليه من حقائق؛ ولهذا فإن العقل ليس مصدرا للعلم والمعرفة - بخلاف ما يعتقد العوام – وإنما غاية ما يفعله هذا العقل هو إدراك الأشياء وتصنيفها ومقارنتها فهو وسيلة من وسائل العلم كالحواس تماما؛ وهذا الأمر لا يقتصر على علم دون علم وإنما هو أمر ينتظم كل العلوم فالطبيب الذي يعتمد على العقل المجرد دون مباشرة جسم الإنسان وفحصه وتصوّر مكوناته لا يعد طبيبا وكذلك المهندس والزراعي؛ وليس الأمر قاصرا على التخصصات الطبيعية بل يتعداه إلى العلوم الاجتماعية والإنسانية؛ فالاجتماعي يجمع استبياناته من واقع المجتمع ويقوم بالبحوث الميدانية دون أن يتدخل العقل والخيال في أصول المادة المدروسة؛ فكل هولاء لا يديرون عقولهم في الفراغ وإنما يعملونها في المواد التي يدرسونها، وكذلك الأمر في التفسير فإن لم تكن ملما باللغة ولا بالمقامات التي نزلت فيها الآيات ولا بأقوال الصحابة ولا بإشاراتهم التي تهديك سواء السبيل في إدراك المعنى فقل لي في ماذا يمكنك أن تعمل عقلك؟!؛ والعقول أدوات ووسائل مهمة فإذا انعدمت المادة التي تُعمَل فيها كانت كطواحين الهواء؛ ولهذا يقول الإمام الشاطبي (الأدلة العقلية إذا استعملت في هذا العلم فإنها تستعمل مركبة على الأدلة السمعية)

ولهذا فإنّ القرآن مقدم على العقل من جهة ومتبوع لا تابع له من جهة أخرى؛ يقول الشاطبي " إذا تعاضد النقل والعقل على المسائل الشرعية فعلى شرط أن يتقدم النقل فيكون متبوعاً ويتأخر العقل فيكون تابعاً؛ فلا يسرح العقل في مجال النظر إلا بقدر ما سرحه النقل "

ولهذا فإن العقل المجرد لا يعول عليه في التفسير ولا في غيره من العلوم أيا كان نوعها؛ وإنما التعويل على العلم الغزير عند صاحب العقل الكبير

ولأجل ذلك فإن قول أبي حسان عن الصحابة رضوان (ومن حقنا أن نفهم نصوص الشريعة بعقولنا كما فهموها هم بعقولهم) قول بلا معنى؛ صحيح أن لنا عقول كما للصحابة رضوان الله عليهم،، والعلم شيء والعقل شيء آخر؛ مع أن العقل وسيلة العلم لا مصدره و؛ ولهذا يجوز لنا أن نتجاوز فهم الصحابة للقرآن في حالة واحدة فقط وهي إذا توافرت لدينا أدوات الفهم التي توافرت لديهم و هذا هو المحال

أما قول أبي حسان أن "السلف بشر كغيرهم" فصحيح أنهم بشر وللبشر عقول كما لهم؛ لكنهم في فهم القرآن ما مثلهم في الورى بشر لخصائص منطقية لا توجد في سواهم.

أما قوله " لا فرق عندي بين تفسير السلف وتفسير من جاء بعدهم إلى يومنا هذا ما دام الكل يملك القدرات التي تؤهله لفهم النص الشرعي" وفي هذا القول ناقض أبو حسان نفسه؛ إذ وضع لكلامه قيدا وهو امتلاك القدرات التي تؤهل لفهم النص؛ إذ لا أظنه ينكر أن هذه القدرات التي ذكر متفاوتة جدا وقد نال منها الصحابة الحظ الأوفر؛ ولعل الذي دفعه لهذا القول أن مفهوم هذه "القدرات" في ذهنه مشوش جدا

مفهوم التجديد:

التجديد في التفسير عندي ما هو إلا إعادة فهم الحق وفق المنهج السليم ومعرفة الحقيقة عند السلف الصالح الذين شهدت الأدلة بأنهم خير الناس،وهذا التجديد له طريقته ومنهجه.

ولنضرب مثلا لذلك: إذا أردت أن أجدد بناء فلا يعني بحال أنني يجب أن أهدمه وإنما غاية ما أفعله أن أحيي ما اندرس منه، أما إذا هدمته فإن ذلك يسمى في عرف كل العقلاء هدما وإزالة وتدميرا لا تجديدا

ومعنى التجديد الذي نقصده هو المعنى الذي قصده النبي صلى الله عليه وسلم في قوله - كما روى الحاكم - (إن الله يبعث إلى هذه الأمة على رأس كل مائة سنة من يجدد لها دينها)

¥

طور بواسطة نورين ميديا © 2015