صَحِبَهُ مِنْ حِينِ بُعِثَ بَلْ قَبْلَ الْبَعْثِ إلَى أَنْ تُوُفِّيَ، وَكَانَ أَعْلَمَ الْأُمَّةِ بِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِقَوْلِهِ وَفِعْلِهِ وَهَدْيِهِ وَسِيرَتِهِ، وَكَذَلِكَ أَجِلَّةُ الصَّحَابَةِ رِوَايَتُهُمْ قَلِيلَةٌ جِدًّا بِالنِّسْبَةِ إلَى مَا سَمِعُوهُ مِنْ نَبِيِّهِمْ، وَشَاهَدُوهُ، وَلَوْ رَوَوْا كُلَّ مَا سَمِعُوهُ وَشَاهَدُوهُ لَزَادَ عَلَى رِوَايَةِ أَبِي هُرَيْرَةَ أَضْعَافًا مُضَاعَفَةً، فَإِنَّهُ إنَّمَا صَحِبَهُ نَحْوَ أَرْبَعَ سِنِينَ، وَقَدْ رَوَى عَنْهُ الْكَثِيرَ.

فَقَوْلُ الْقَائِلِ " لَوْ كَانَ عِنْدَ الصَّحَابِيِّ فِي هَذِهِ الْوَاقِعَةِ شَيْءٌ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَذَكَرَهُ " قَوْلُ مَنْ لَمْ يَعْرِفْ سِيرَةَ الْقَوْمِ وَأَحْوَالَهُمْ، فَإِنَّهُمْ كَانُوا يَهَابُونَ الرِّوَايَةَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَيُعَظِّمُونَهَا وَيُقَلِّلُونَهَا خَوْفَ الزِّيَادَةِ وَالنَّقْصِ، وَيُحَدِّثُونَ بِالشَّيْءِ الَّذِي سَمِعُوهُ مِنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِرَارًا، وَلَا يُصَرِّحُونَ بِالسَّمَاعِ، وَلَا يَقُولُونَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.

فذلك التفسير أو الحكم الذي يرد عن أَحَدُهُمْ لَا يخْرُجُ عَنْ سِتَّةٍ أَوْجُهٍ:

أَحَدُهَا: أَنْ يَكُونَ سَمِعَه مِنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.

الثَّانِي: أَنْ يَكُونَ سَمِعَه مِمَّنْ سَمِعَه مِنْهُ.

الثَّالِثُ: أَنْ يَكُونَ فَهِمَه مِنْ آيَةٍ مِنْ كِتَابِ اللَّهِ فَهْمًا خَفِيَ عَلَيْنَا.

الرَّابِعُ: أَنْ يَكُونَ قَدْ اتَّفَقَ عَلَيْه مَلَؤُهُمْ، وَلَمْ يَنْقُلْ إلَيْنَا إلَّا قَوْلَ الْمُفْتِي بِه وَحْدَهُ.

الْخَامِسُ: أَنْ يَكُونَ لِكَمَالِ عِلْمِهِ بِاللُّغَةِ وَدَلَالَةِ اللَّفْظِ عَلَى الْوَجْهِ الَّذِي انْفَرَدَ بِهِ عَنَّا.

أَوْ لِقَرَائِنَ حَالِيَّةٍ اقْتَرَنَتْ بِالْخِطَابِ.

أَوْ لِمَجْمُوعِ أُمُورٍ فَهِمُوهَا عَلَى طُولِ الزَّمَانِ مِنْ رُؤْيَةِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَمُشَاهَدَةِ أَفْعَالِهِ وَأَحْوَالِهِ وَسِيرَتِهِ وَسَمَاعِ كَلَامِهِ وَالْعِلْمِ بِمَقَاصِدِهِ وَشُهُودِ تَنْزِيلِ الْوَحْيِ وَمُشَاهَدَةِ تَأْوِيلِهِ بِالْفِعْلِ، فَيَكُونُ فَهِمَ مَا لَم نَفْهَمُهُ نَحْنُ.

وَعَلَى هَذِهِ التَّقَادِيرِ الْخَمْسَةِ يكُونُ قوله حُجَّةً يَجِبُ اتِّبَاعُهَا.

السَّادِسُ: أَنْ يَكُونَ فَهِمَ مَا لَمْ يُرِدْهُ الرَّسُولُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَأَخْطَأَ فِي فَهْمِهِ، وَالْمُرَادُ غَيْرُ مَا فَهِمَهُ.

وَعَلَى هَذَا التَّقْدِيرِ لَا يَكُونُ قَوْلُهُ حُجَّةً.

وَمَعْلُومٌ قَطْعًا أَنَّ وُقُوعَ احْتِمَالِ مِنْ خَمْسَةٍ أَغْلَبُ عَلَى الظَّنِّ مِنْ وُقُوعِ احْتِمَالٍ وَاحِدٍ مُعَيَّنٍ، هَذَا مَا لَا يَشُكُّ فِيهِ عَاقِلٌ، وَذَلِكَ يُفِيدُ ظَنًّا غَالِبًا قَوِيًّا أَنَّ الصَّوَابَ فِي قَوْلِهِ دُونَ مَا خَالَفَهُ مِنْ أَقْوَالِ مَنْ بَعْدَهُ، فكيف إذا اجتمعت هذه الأمور الخمسة في عموم الصحابة , فما أخطأه أحدهم تمَّمَه الآخر.

وهذا الوجه كافٍ لمن يدعي العقل والفهم.

هذه بعض الأدلة التي تدل صراحة على استحالة أن يغيب عنهم شيء من كتاب الله فلا يعلموا معناه , وأكثرها مستفاد من كلام ابن القيم -رحمه الله- مع الاختصار والترتيب.

وسأجمع بقية الأدلة في عبارة واحدة:

11 - جميع الأدلة التي أخبر الله فيها عن فضل الصحابة ودينهم = تستلزم كمال علمهم بالحق الذي أنزله في كتابه وبعث به رسوله. وذلك من وجوه:

1 - أن العلم من أعظم الفضائل فيدخل في تلك النصوص من هذا الوجه.

2 - لا فضل مع الجهل , ونحن نتكلم عن جهل جيل بأكمله بشيء من معاني كلام الله فلا يعلموه.

3 - لا يكتمل الدين إلا بكمال العلم , فمن قال هم أكمل الأمة ديناً لزمه ولا بد أن يقول هم أكملهم علماً , وكيف يكمل الدين مع نقص العلم؟

4 - أَنَّهُمْ إذَا كَانُوا بِهَذِهِ الْمَنْزِلَةِ عِنْدَهُ تَعَالَى فَمِنْ الْمُحَالِ أَنْ يَحْرِمَهُمْ كُلَّهُمْ الصَّوَابَ فِي مَسْأَلَةٍ فَيُفْتِي فِيهَا بَعْضُهُمْ بِالْخَطَأِ، وَلَا يُفْتِي فِيهَا غَيْرُهُ بِالصَّوَابِ، وَيَظْفَرُ فِيهَا بِالْهُدَى مِنْ بَعْدهم.

والخلاصة: أن نسبتهم إلى من بعدهم في العلم كنسبتهم إلى من بعدهم في الفضل.

12 - ثم نضيف أخيراً ونقول:

كُلَّ دليل استدلَّ به العلماء على وجوب اتباعهم فيما أجمعوا عليه وعدم مخالفتهم = يَصِحُّ دليلاً على تحريم الخروج على أقوالهم بما يخالفها؛ لاتحاد العلّة الموجبة لاعتبار الإجماع.

¥

طور بواسطة نورين ميديا © 2015