- وتبديع كل من يرده؛ ورميه بأنه من الجهمية أو منحاز لهم = كل ذلك تابع لاعتقاد الثبوت , والإيمان بالمعنى الذي تضمنه. ومن أنكره فلا شك في ابتداعه , وهو مذهب الجهمية في إنكار العندية لله تعالى , وإثبات أن الله تعالى في كل مكان.

قال الذهبي: (وما فسّر به مجاهد الآية كما ذكرناه فقد أنكره بعض أهل الكلام , فقام المروذي وقعد وبالغ في الانتصار لذلك , وجمع فيه كتاباً وطرقَ قولَ مجاهد). العلو 2/ 1081. فهذا الذي حمل بعض العلماء على المبالغة في الرد؛ وهو أن من أنكر ذلك بعض أهل الكلام , لا أهل الحديث والأثر , فالإنكار جاء من جهة المعنى لا من جهة الثبوت.

وعلى هذا يحمل كل ما نقله عن الخلال في كتابه "السنة" , على أن الغلوّ مذموم ممّن جاء به , سواء من أتباع السلف أو غيرهم.

هذه بعض النقول من كتاب السنة للخلال فقط، وتأمل لغة الإقصاء والتبديع لكل من يخالف هذا الأثر، وكأن من يخالفه قد رد القرآن كله!

تلك اللغة تفهم من خلال سياقها وزمانها ومكانها , وما لا سبب له منها فلا يلزمنا , وليست هدياً لازماً للسلف.

وأما ابن تيمية فإنه تلطف في عبارته تجاه هذا الأثر ولم نر فيه تلك الشدة التي يستعملها تجاه خصومة حيث قال في درء تعارض العقل والنقل: "حديث قعود الرسول صلى الله عليه وسلم على العرش رواه بعض الناس من طرق كثيرة مرفوعة وهي كلها موضوعة وإنما الثابت أنه عن مجاهد وغيره من السلف وكان السلف والأئمة يروونه ولا ينكرونه ويتلقونه بالقبول"

أكمل رعاك الله:

(وقد يقال: إن مثل هذا لا يقال إلا توفيقا , لكن لا بد من الفرق بين ما ثبت من ألفاظ الرسول وما ثبت من كلام غيره سواء كان من المقبول أو المردود .. والمقصود هنا أن ما لم يكن ثابتا عن الرسول لا نحتاج أن ندخله في هذا الباب سواء احتيج إلى تأويل أو لم يحتج) درء تعارض العقل والنقل 6/ 85.

دعك من شدة ابن تيمية ولينه؛ فنحن نفهم هذه الرسائل السلبية التي ترسلها خلال كلامك.

وما قاله ابن تيمية هو ما نقوله , ويقوله كل من أحسن البحث والفهم عن السلف , والواجب عليك -حال الإنصاف- إكمال عبارته لا اجتزائها.

وأما ابن القيم فقد انتصر له أيضا حيث ذكر من قال به وسكت من غير تعليق، قال في بدائع الفوائد: (قال القاضي: ..

ابن القيم نقل كلام القاضي أبي يعلى وسكت , وكل كتابه (البدائع) تقريباً كذلك؛ نقولٌ وفوائد , فكيف تَعدُّ ذلك إقراراً , فضلاً عن أن يكون انتصاراً له. ونحن نعرف رأيك في الإقرار السكوتي فيما مضى؟!

وحجة هؤلاء قاطبة في قبول هذا الأثر عن مجاهد: أن الأمة تلقته بالقبول

ذكرت لك حججهم فيما سبق , ولكن هذا دأبك؛ حُجّةٌ واحدة , وسبب واحد.

لاحظ كيفية الاحتجاج، وكيف خرموا - بحجتهم هذه - قاعدتهم التي تقول: كل تفسير خالف تفاسير السلف فهو باطل

بحسب ما سبق لم تُخرم القاعدة؛ لأن مجاهداً مسبوقٌ فيما قاله , ولأنه ليس قولاً مخالفاً لتفاسير السلف , والقول به لا يُبطل القول الأول , ولكنا لا نذهب إليه لأنه أمرٌ غيبي محض لا نثبته إلا بالوحي , فلو لم يكن أمراً غيبيّاً لقبلناه لأنه لا يخالف القاعدة , وما ذكره ابن جرير والثعلبي عند هذه الآية يومئ إلى هذا.

وهذا يثبت عدم فهم القاعدة , أو عدم فهم هذا المثال بأكمله.

وهنا نطرح عدة أسئلة: من هذه الأمة التي تلقت هذا الأثر بالقبول؟

من قال أن الأمة تلقته بالقبول فلأنه ثبت عنده باجتهاده , ومعناه ثابت عنده بجملة نصوص.

ولا يبعد أن يكون حصول ذلك في زمن ما , ولعدة مواقف أدت لاشتهار هذا القول , حتى صار علامة فارقة بين أهل السنة وغيرهم , كما أصبحت جملة من المسائل الفقهية (كالمسح على الخفين) من ضمن رسائل الاعتقاد؛ لأنها صارت شعاراً يتميز به أهل السنة عن غيرهم.

وكيف تتلقى الأمة هذا الخبر بالقبول وليس له سند متصل إلى النبي صلى الله عليه وسلم؟

ولست أدري تحت أي دليل أو حجة أو قاعدة أو أصل انطلقوا في تبديعهم لمن يرد هذا الأثر؟

كل هذا سبق بيانه.

وكيف حكموا على من رده بالظلال والبدعة مع أنه إنما رده لعدم ثبوته مرفوعا؟

أثبت ذلك.

ولست أدري كيف نجمع بين رأيهم هذا وبين ما اتفق عليه المحدثون والمفسرون قاطبة من عدم قبول تفسير التابعي لأمر غيبي إلا إذا اعتضد بدليل، وليس ثمة دليل هنا

هذا بحسب بحثك وفهمك.

وكيف؟ وكيف؟ أسئلة لا تنتهي أبدا، ولكن كما قيل: إذا عُرف السبب بطل العجب.

إذا ما السر وراء ذلك؟

لا أدري , ولكن يبدو أنه سبب واحد , ومتعلق بالمقاصد.

إن السر وراء ذلك كله هو إغراقنا في السلفية والتعصب المقيت لها، وسيرنا على خطى أتباعها دون وعي منا، ودون أن نُكلّف عقولنا ولو شيئا يسيراً لتحليل ما يقوله دعاة أتباع السلف، حتى صرنا نُسلم للقائل لا للمقولة، من باب الغلو والتعصب للأشخاص لا غير، فالله المستعان.

ومن السهل أن نقول إن عدائك للسلف وأتباعهم هو ما حملك على كثير ممّا قلت؛ ممّا لا يقوم على بحث , ولا يعضده دليل , وإنما هو أحكام مسبقة , ومواقف شخصية حددت النتائج دون منهجية علمية , أو استدلال سليم.

¥

طور بواسطة نورين ميديا © 2015