التعامل السليم مع هذا الأثر مبنيٌّ على المنهج العلمي في قبوله , والفهم السليم له , وهذا ما لم يوفق له أبو حسان , وبيان ذلك في الآتي:

- بخصوص أثر مجاهد (أن المقام المحمود: جلوسه على العرش):

أولاً: الأثر لا يثبت عن مجاهد؛ لأنه من طرق عن ليث بن أبي سليم , عن مجاهد. وليث بن أبي سليم قال عنه الإمام أحمد: مضطرب الحديث. وقال أبو زرعة وأبو حاتم: ليث لا يُشتَغل به؛ مضطرب الحديث. (ينظر: ترجمته في ميزان الاعتدال وتهذيب التهذيب). وله طرق أخرى عن مجاهد عن غير ليث , جمعها المروزي في كتاب (المقام المحمود) , وعدد بعضها الذهبي في العلوّ , وأسند منها الخلال في كتابه السنة , وجلّ أسانيدها ضعيفة , وقد يتقوى بعضها ببعض بعد الاطلاع عليها والجمع والتقصي , إلاّ أن الثابت عن مجاهد ما يأتي , وهو وفاق الجماعة.

ثانياً: ثبت عن مجاهد خلاف ذلك؛ من طريق آدم بن أبي إياس , عن ورقاء , عن ابن أبي نجيح عنه قال: المقام المحمود: شفاعة محمد صلى الله عليه وسلم. (ينظر: تفسير مجاهد 1/ 369) وهذا من الأسانيد الصحيحة الثابتة عن مجاهد رحمه الله , وله طرق متعددة إليه تنظر في تفسير ابن جرير 15/ 45 (ط: التركي).

- في معنى المقام المحمود أقوال:

أولها: أنه شفاعة النبي صلى الله عليه وسلم يوم القيامة. وقد ثبت عن ابن عمر مرفوعاً في صحيح البخاري وغيره , ويحتمله لفظ الآية , وسياقها , وهو قول عامة الصحابة والتابعين –ومنهم مجاهد كما سبق- , وعليه جمهور المفسرين.

وثانيها: أنه جلوسه على العرش يوم القيامة. وقد روي من عدة طرق مرفوعاً –وأسانيدها شديدة الضعف ولا تصح بحال- , وموقوفاً عن ابن عباس وعبد الله بن سلام –وأسانيدها في الضعف أقرب من المرفوعات- , وروي عن مجاهد , والثابت عنه وفاق القول الأول.

والقول الثاني وإن كان يحتمله لفظ الآية , ولا يأباه سياقها = إلا أنه أمرٌ غيبي لا يُقبَل إلا من طريق الوحي , وحيث لم يثبت ذلك عن النبي صلى الله عليه وسلم فلا يصح القول به.

قال ابن عبد البر رحمه الله: (وعلى هذا أهل العلم في تأويل قول الله تعالى {عسى أن يبعثك ربك مقاماً محموداً} أنه: الشفاعة. وقد رُويَ عن مجاهد أن المقام المحمود: أن يقعده معه يوم القيامة على العرش. وهذا عندهم منكر في تفسير الآية , والذي عليه جماعة العلماء من الصحابة والتابعين , ومن بعدهم من الخالفين؛ أن المقام المحمود هو: المقام الذي يشفع فيه لأمته. وقد رُويَ عن مجاهد مثل ما عليه الجماعة من ذلك , فصار إجماعاً في تأويل الآية من أهل العلم بالكتاب والسنة) التمهيد 19/ 63 – 64.

وقد أطبق عامة السلفيين من لدن عصر الإمام أحمد إلى وقتنا هذا على قبول هذا الأثر عن مجاهد

هذا القول أنكره عامّة المفسرين , كما نصّ على ذلك الواحدي وابن عبد البر والذهبي وابن تيمية –كما سيأتي- وابن حجر , ولم يقبله إلا القلة ولأسباب سيأتي ذكرها.

وعدّوا هذا الأثر في حكم المرفوع، وتواطؤا على وجوب الاعتقاد بما فيه، وتبديع كل من يرده، ورميه بأنه من الجهمية أو منحاز لهم

- من عَدّه مرفوعاً فلأنه قد روي مسنداً مرفوعاً , سواءً صح ذلك أم لا , وكذا ورد موقوفاً من غير ما طريق , ومثله عن الصحابي له حكم الرفع بالإجماع , فمثله لا يُقال بالرأي.

ومن لم يثبته من هذا الطريق أثبته من جهة صحته عن الإمام مجاهد عنده , قال الإمام الذهبي رحمه الله: (ويبعد أن يقول مجاهد ذلك إلا بتوقيف؛ فإنه قال: (قرأت القرآن من أوّله إلى آخره ثلاث مرات على ابن عباس رضي الله عنهما أقِفُه عند كل آيةٍ أسأله) , فمجاهد أجلّ المفسرين في زمانه , وأجلّ المقرئين؛ تلا عليه ابن كثير , وأبو عمرو , وابن محيصن. فممّن قال إن خبر مجاهد يُسَلَّم له ولا يُعارَض ... ) ثم عَدّد جملةً منهم بعد أن بيّن مأخذهم السابق. العلو للعلي العظيم 2/ 1180 (ط: البراك).

- واعتقاد ما فيه تابع لاعتقاد الثبوت , فمن ثبت عنده مرفوعاً وجب عليه اعتقاد ما فيه , ولفظ الآية يقبله كما سبق , والسياق لا يحيله.

¥

طور بواسطة نورين ميديا © 2015