من ذلك، أجور السكن تصل إلى 20 جنيها، مصروفات بيت تصل إلى 15 جنيهاً، وعشرة جنيهات مصروفات أخرى أي أنني سأصرف شهريا بحدود 40 - 45 جنيهاً، وهو ما يساوي 25 - 30 ديناراً عراقياً تقريباً، وهذا المبلغ أشعر أنه كثير، وآمل أن يكون في طوق الأهل أن يدفعوه، وإذا ما كتب الله لي الاستمرار في الدراسة فإن كل عشرة أشهر سأصرف ما لا يقل عن (300 دينار) عراقي، وأنا لا أبغي من وراء هذه المصروفات العيش المُرَفَّه إنما أن أهيئ لنفسي الراحة التي لا أجد معها حجة في التواني عن بذل كل الجهود.

في انتظار بدء الدراسة

الخميس 6 كانون الأول 1973م = 12 ذو القعدة 1393هـ

اليوم الأول من الأسبوع الثاني وأنا في القاهرة ولم أحقق إلى الآن شيئاً سوى أني استقررت ظاهرياً من حيث السكن، فالدراسة وهي أهم ما في الموضوع لم تبدأ بعد، القبول الرسمي الذي هو أساس وجودي في القاهرة لم يظهر إلى الآن رغم أن الدكتور أمين قد طمأنني على القبول، المهم تعليق الأسماء في إعلان والمهم أن أبدأ الدراسة، الحمد لله الذي يسر حضوري إلى القاهرة قبل بدأ الدراسة، إذ إنها لو كانت قد بدأت لتعبت كثيراً، ولأسفت وظللت أذكر هذا التخلف كثيراً في المستقبل، ربما تبدأ الدراسة الأسبوع القادم يوم السبت، مجموع ساعات الدراسة الأسبوعي هو ست ساعات في التخصص، وساعتان في اللغة الأجنبية، أي أن الدراسة ثماني ساعات فقط، ويبقى لي من الأسبوع على أساس ثماني ساعات عمل لكل يوم يبقى ستة أيام، يوم جمعة، تبقى خمسة أيام أي أربعين ساعة عمل لتغطية ثماني ساعات فقط، مع أنها مرحلة متقدمة وخطرة فأنا بعد توفيق الله وتيسيره أجد الأمر يسيراً، وخاصة بعد أن استقر الرأي على دراسة النحو، مع أن التسجيل الرسمي لا يزال في فرع علم اللغة، لعل الله تعالى أراد لي خيراً حين غيرت فكرتي إلى النحو، فقد حدثني الدكتور أمين السيد أن معيداً في دار العلوم نفسها يدرس علم اللغة مع أحد الأساتذة مضى له بعد السنة التمهيدية خمس سنوات حتى استطاع أن يكمل رسالة الماجستير، وهذه المدة طويلة جداً، لا يمكن أن أبقى حبيسها في موضوع قد تكون نتيجته الإخفاق، في حين أن النحو إذا يسر الله وجرت الأمور على ما يرام من إنجاز الرسالة بعد السنة التمهيدية إذا أمد الله في العمر وجعل حليفي النجاح ربما أنجزتها في أقل مدة يمكن فيها الطالب أن يناقش، وهي سنة بعد السنة التمهيدية كما لَمَّحَ لي الدكتور أمين، على كل حال أنا الآن في انتظار ما يمكن أن تأتي به الأسابيع المقبلة فإنها حاسمة في رسم خطوط المستقبل، من حيث السكن أنا أعيش الآن عيشة مريحة، الشقة نظيفة لطيفة، والأكل رغم أننا نفتقد إلى اليوم الرز واللحم فإنه أيضاً جيد والحمد لله، وإن كان ذلك يكلف الأهل غالياً.

تأمُّل

الجمعة 7 كانون الأول 1973م = 13 ذو القعدة 1393هـ

بدأت أتحول إلى الحياة الجديدة .. جديدة في مكانها فقط وبعض الجدة في أسلوبها، لا شك في أنها نقلة كبيرة من بلدتي الصغيرة بيجي التي تتشبث بأطراف الحضارة إلى مدينة تقف إلى جانب أكبر مدن العالم نفوساً وحضارة عريقة، طريقة الحياة العادية هنا تختلف عما نحسه هناك، الناس هنا تسيطر عليهم المادة في الظاهر ولو أني لم أسبر أغوار المجتمع المصري، وأنَّى لي ذلك، لكن عن طريق تعاملي مع عدد محدود ألمس ذلك، المادة كل شيء، لها وزنها وقيمتها، اللقمة صعبة الحصول، أما أنا الوافد من أرض الرافدين فليست اللقمة بعيدة عن متناول يدي بفضل الله وبفضل الأهل والإخوة الذين يسروا لي بعد تيسير الله السفر إلى هنا للدراسة، لا شك أني الآن أقتطع من كل لقمة يدفعها أحدهم إلى فيه شيئاً بل ربما ناصفتهم في حياتهم أنا واحد وهم جمع ولكن ربما ناصفتهم، الحياة غالية خصوصاً إذا أردت أن ترتاح وأن تدرس وتحقق شيئاً، المهم بدأت أعهد الحياة الجديدة: الدار الجديدة، مشرق الشمس ومغربها، التوقيت الجديد، والناس من حولك في الشوارع بدأت أعهدهم، أعهد هذا الزحام في سيارات النقل العام .. وبدأت أتذكر رأي أبي حنيفة في أن مس المرأة لا ينقض الوضوء عندما تضطر كلما تركب إلى التدافع مع جموع النساء والرجال على حد سواء، أذكر الأهل من الزاوية التي أقبع فيها داخل غرفتي التي أنزلها في الدار، أتذكر حياتي هناك، ولكن الأمل هو الذي أحاول أن أقرنه إلى الذكرى، الأمسيات الجميلة في دارنا تنقضي وسط صخب الأطفال وهمسات الكبار، وهكذا ينقضي العمر والأيام التي كُتِبَ أن نقضيها على الأرض، أملي في العودة هو الذي يدفعني إلى العمل وإلى تحمل هذا الفراق، حقيقة أن المسلم أينما حل فهو سيد نفسه لا تخذله الغربة ولا تحرفه عن جادة الحق، لا يقلقه الموت ولا يخيفه، مُسَلِّمٌ أمره لله، الحمد لله الذي يسر وجعل في هذا البلد حماة لهذا الدين ودعاة إلى الله. صلينا اليوم الجمعة في جامع قرب جسر الزمالك هز الخطيب فيها جموعاً متكاثرة من الشباب والشيوخ.

* ذكريات غانم قدوري الحمد ... (الحلقة الأولى) ( http://tafsir.org/vb/showthread.php?t=18525) .

نشرت الحلقة الثانية يوم الجمعة 7 صفر 1431هـ.

¥

طور بواسطة نورين ميديا © 2015