ـ[غانم قدوري الحمد]ــــــــ[15 Jan 2010, 02:02 م]ـ

ترك العمل في الشركة (2)

الخميس 9 آب 1973م = 11 رجب 1393هـ

http://www.tafsir.net/vb/imagehosting/64b5045c5045ba.jpg

صورة للصفحة الأولى من يوميات الرحلة إلى مصر9/ 8/1973م

كنت أمشي وحيداً ورجلي تغطس في الرمل الذي طحنته عجلات المكائن والسيارات، أود لو أني أسير في باطن الأرض لأتخلص من ذلك اللهب المحرق الذي تغدقه الشمس على وجه الأرض، أتلفت حولي إلى هذه المباني الشامخة المكتملة البنيان إلا من أكداس من الأنقاض تَحُفُّ بها، وفَكَّرْتُ في اليوم الذي التحقت فيه بالعمل حين كان معظم هذه البنايات لا يرتفع عن وجه الأرض كثيراً، ومنذ ذلك الحين 20/ 11/1972 كان العمل يسير سيراً حثيثاً حتى بلغ ذروته ثم بدأ ينحسر تدريجياً مُخَلِّفاً ذلك البناء الشامخ، وأمامي هذه الأكداس من المواد وغُرَفُ الخشب والصفيح تضم أشتات المواد المتبقية فائضة من العمل. حقاً شعرت وأنا أسير إلى مخزن مشروع أبنية تكريت لأقضي آخر ساعة في العمل ثم أذهب بعدها إلى حيث يشاء الله، كنت أشعر بحزنٍ في داخلي وفراغ أُوشك أن أنتهيَ إليه، هل ذلك لأني سأفقد هذه الدراهم التي أتقاضاها عند نهاية كل شهر، أم أني سأفارق أناساً عشت معهم ردحاً من الزمن، أم أني سأفارق أرضاً سرت عليها وتآلفت معها، أَلِفْتُ وديانها وغبارها ومطر الشتاء وحر الصيف فيها، أم أني سأبدأ مرحلة جديدة بعد مفارقة الشركة، مرحلة تحتاج من الحزم والجلد ما جعلني أشعر بحزن حين بدأت أقترب منها، فتركي العمل في مشروع مباني تكريت هو أول مرحلة في تلك الرحلة الشاقة.

في صباح هذا اليوم وفي طريقنا إلى العمل كنت جالساً إلى جانب أخي المهندس سَفَر في السيارة، وحدثته عن ضرورة التهيؤ للرحلة المقبلة ومراجعة بعض المواضيع وقراءة كتاب أو كتابين في اللغة العربية والنحو، واستوضحت رأيه في تركي العمل لعلي أستطيع خلال الأيام القليلة المقبلة أن أحقق بعض ذلك، مادام سفري صار قاب قوسين أو أدنى، فوافق على ذلك، وأكملت الأمور الإدارية التي تتعلق بالاستقالة من العمل، وفي حدود الساعة الرابعة بعد الظهر غادرت السيارات تنقل العمال عائدين إلى مساكنهم، وأنا منهم ولكني لن أعود معهم إلى العمل بعد اليوم.

الإعداد لبدء الرحلة

الأحد 12 آب 1973م = 14 رجب 1393هـ

بدأت أُعِدُّ العُدَّةَ وأراجع الماضي الذي يمكن أن يكون أساساً للمستقبل، وبدأت أُصْغِي ساعاتٍ طويلة لحديث مع نفسي، ماذا يمكن أن أفعل بعد هذه السنين التي قضيتها خارج ميدان الدرس التعليمي، وما رافق ذلك من تشرد وانقطاع عما كنت قد حققته في ذلك الزمان الغابر، وهل يمكن أن أبدأ المسيرة من جديد من الصفر، أو من أعلى من ذلك، كنت هذه الأيام أذهب إلى مكتبة بيجي العامة أُقَلِّبُ في كتبها، أَتَعَرَّفُ أسماء الكتب وأخص بعضها بالقراءة، وقد استعرت كتاباً بحثتُ عن موضوعه كثيراً حتى عثرت عليه وهو كتاب (القاهرة) يبحث في تاريخ مدينة القاهرة قديماً وحديثاً مع صور مُوَضِّحَة، وقد توسعت معلوماتي ونظرتي إلى مدينة القاهرة وإلى مصر عامة، بالإضافة إلى ذلك بدأت أُنَظِّم وأراجع بعض كتب النحو، أنظر فيها، في الحقيقة لا أستطيع أن أقول إني سأملك كل مشاعري الآن إذ كثيراً ما شَرَدَ الفكر بعيداً، مرة أنظر إلى الرحلة بأنها شيء عملي وطبيعي ولا بد منها بعد مشيئة الله، ومرة أنظر إليها على أنها مغامرة غير مأمونة العواقب، لا بل غير مأمونة البدايات، وربما تكون العواقب حميدة، أفكر أحيانا أفكاراَ بعيدة، هل سأعود إلى هذا البيت الذي أظلني وأجده ومن فيه بخير، الوالد والوالدة والإخوة والأخوات والأطفال .. حال مدينتنا كيف سيكون، العراق ومن فيه، أنتقل من حياة إلى حياة، قضية الموت تقلقني كثيراً الآن، وهو واقع أينما كان الذي كُتِبَ عليه الموت، لكنها رغبة بشرية تحدثنا أحياناً بالبقاء، دموع الوالدة لا أحتمل التفكير بدلالاتها، وهي تظن في تفكيرها بأني ربما لن أعود وتخسرني إلى الأبد، أو أني سأعود ولا أجدها وأخسرها إلى الأبد، تفكير يدفعنا إليه أحياناً التعلق بالحياة، ولكن بصورة عامة أجد الأهل أكثر دفعاً لي في هذا الاتجاه، والوالدة لا تبالي بالنتائج، لكنها دموع الوالدة!

¥

طور بواسطة نورين ميديا © 2015