- إن الأمية صفة للعرب، وليس للشريعة أو القرآن، ولم تعد العرب أمة أمية كما كانت بعد نزول القرآن؛ بل انتقل بهم القرآن من حال إلى حال؛ قال تعالى: (مَا كُنتَ تَعْلَمُهَا أَنتَ وَلاَ قَوْمُكَ مِن قَبْلِ هَذَا).

- إن القرآن معجزة باقية؛ فلا بد أن يكون فيه ما يصلح لأن تتناوله أفهام من يأتي من الناس في عصور انتشار العلوم في الأمة.

- إن القرآن لا تنقضي عجائبه (أي معانيه)، ولو كان الأمر كما قال الشاطبي لانقضت عجائبه بانحصار أنواع معانيه.

- إن من تمام إعجاز القرآن أن يتضمن من المعاني مع إيجاز اللفظ فيه ما لا تحصره الكتب الكثيرة والدراسات المتجددة.

- إن أفهام المخاطبين أولاً - وهم العرب الأميين - ليست كل شيء، بل قد يكون المعنى الأساسي مفهوما لديهم، أما المعاني العميقة التي تزيد على المعاني الأساسية فقد يتفهمها أقوام وتحجب عن آخرين.

- لم يكتف السلف بظواهر القرآن فحسب بل نزعوا منه علوماً عنوا بها ونحن نقتفي آثارهم في إضافة علوم أخرى تخدم مقاصد القرآن.

ويبدو للباحث أن وصف الشاطبي للشريعة بـ"الأمية" إنما هو نسب إلى "الأمة الأمية" ولا يمكن أن يتم النسب في اللغة العربية إلا كذلك لأمن الالتباس، ولم يقصد الشاطبي أن الشريعة في نفسها أمية، والأمية ليست صفة مدح وإنما صفة ذم ظاهر، ومهما يكن من أمر فإن تعبير الشاطبي ملتبس على كل حال، وقد عبر الشاطبي هذا التعبير دون غيره استدلالاً بقوله ( r) ( إنا أمة أمية لا نكتب ولا نحسب) وقد جاء هذا الحديث الصحيح الذي رواه البخاري ومسلم والنسائي وأبو داود والبيهقي وأحمد وغيرهم في (رؤية هلال رمضان) وقد نهى النبي ( r) عن الصيام قياساً بالحساب، وإنما أراد أن يثبت الشهر بالرؤية الحسية قال ( r) ( صوموا لرؤيته وافطروا لرؤيته) كما روى البخاري ومسلم والنسائي والترمذي والدراقطني والدارمي وابن حبان والبيهقي وأحمد وابن خزيمة، ومطلع الهلال كما ذكر ابن تيمية ليس له حساب مستقيم ولا طريق مطرد، وقد اعتمد أهل الكتاب في صومهم على الحساب والقياس، وفي الحديث نهي عن مشابهتهم في ذلك، ولأجل ذلك ذهب الداودي إلى أن المقصود بالأمية - في الحديث - هو: أننا لا نقرأ ولا نكتب عن كتب الأمم وما فيها من أباطيل وإنما نأخذ ما جاء به الوحي، والأمية المنسوبة إلى هذه الأمة وصف لها، وليس أمراً بها، ثم زالت هذه الصفة حتى صارت أمة الإسلام أكثر الأمم علماً؛ قال تعالى (هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِّنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِن كَانُوا مِن قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُّبِينٍ) فقد امتن الله تعالى على هذه الأمة بما يزيل أميتها، وحساب الشهر إما حساب عددي أو طبيعي حسي، وحساب الشهر بعد ظهور الهلال حساب حسي مضبوط لا يدخله خلل ولا يفتقر إلى حساب، والسنة الشمسية وإن كانت طبيعية فليس لها أمر ظاهر للحس بل تفتقر إلى حساب سير الشمس في المنازل، ولهذا كان الحساب - بعد ظهور الهلال للحس - أمراً دقيقاًً أُمر به المسلمون؛ قال تعالى: (هُوَ الَّذِي جَعَلَ الشَّمْسَ ضِيَاء وَالْقَمَرَ نُورًا وَقَدَّرَهُ مَنَازِلَ لِتَعْلَمُواْ عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسَابَ) وكأني بالشاطبي يقول: إن الأمر الحسي القاطع المشترك الذي يستوي في الأخذ به الذي يحسب بالقياس والذي يحسب بالرؤية هو الفيصل، وليس المعول عليه في ذلك نظريات الفلاسفة وعلومهم الذهنية سواء كان ذلك في الطبيعيات أو التعاليم أو المنطق أو علم الحروف وأشباهها، والقرآن عند الشاطبي قد أفهم العرب الأميين الذين سماهم ابن سينا وغيره (أعراباً جفاة)، وقد خاطبهم القرآن أولاً وأتى بلغتهم ولم يأت على اصطلاح الفلاسفة والخواص، ثم إن هولاء الأميين لم يعرفوا نظريات الفلاسفة ولا حساب الجمل في فواتح السور الذي اجتلب من أهل الكتاب كما فعل ابن سينا في (الرسالة النيروزية)، فهولاء الفلاسفة – عند الشاطبي – قد جعلوا أفكارهم هي الأصل وأقحموها في القرآن وحملوه عليها؛ يقول الشاطبي عن هولاء أنهم (لم يأخذوا الأدلة الشرعية مأخذ الافتقار إليها والتعويل عليها حتى يصدروا عنها؛ بل قدّموا أهواءهم واعتمدوا على آرائهم ثم جعلوا الأدلة الشرعية منظوراً فيها وراء ذلك)، وتقويل القرآن ما لم يقله أمر مرفوض من جهة وإلغاء ما يقوله القرآن بالتأويل أمر مردود كذلك من جهة أخرى؛ يقول الشاطبي: (فليس بجائز أن يضاف إلى القرآن ما لا يقتضيه كما أنه لا يصح أن ينكر منه ما يقتضيه) والقرآن لا يُفهم بالفلسفة واصطلاحاتها بل بلغة العرب الذين وصفهم الفلاسفة بـ (الأعراب الجفاة)، ولهذا أيضاً هاجم الإمام الشاطبي في الموافقات ابن رشد صاحب كتاب (فصل المقال فيما بين الحكمة والشريعة من الاتصال) حيث ذهب ابن رشد في هذا الكتاب إلى أن علوم الفلسفة مطلوبة لا يفهم المقصود من الشريعة إلا بها؛ فرد الشاطبي عليه بقوله: (لو قال قائل أن الأمر بالضد مما قال لما بعد في المعارضة، وشاهد ما بين الخصمين شأن السلف في تلك العلوم .... فلينظر امرئ أين يضع قدمه).

ولم يتفرد الشاطبي من العلماء بالهجوم على ربط العلوم الفلسفية بالقرآن؛ بل نجد علماء آخرين قد أنكروا ذلك؛ يقول ابن عاشور: (وذهب ابن العربي في العواصم إلى إنكار التوفيق بين العلوم الفلسفية والمعاني القرآنية ولم يتكلم في غيرها من العلوم؛ وذلك على عادته في تحقير الفلسفة لأجل ما خولطت به من الضلالات الاعتقادية)

ويعتذر ابن عاشور عن كلام الإمام الشاطبي بقوله: (لعل هذا الكلام صدر منه في التفصي (التخلّص) من مشكلات في مطاعن الملحدين اقتصاداً في البحث وإبقاء على نفيس الوقت؛ وإلا فكيف ينفي إعجاز القرآن لأهل كل العصور) ولا يظن الباحث أن هذا صحيحاً، إذ قصد الإمام الشاطبي تحديداً تكلفات الفلاسفة الإسلاميين وتعسفهم في حمل القرآن على آرائهم، ولم يقصد نفي تجدد العلم في القرآن؛ وإلا فأين يضع هو نفسه اجتهاداته العظيمة.

¥

طور بواسطة نورين ميديا © 2015