كما بيَّن أن نُسَخَ المخطوط المنسوخة من الأصل الموجود فالأصل يغني عنها، فقد يجد الباحث أربع نُسَخٍ لمخطوط ما، ثم يتفاجئ أن إحدى هذه النُّسَخ هي الأصل، وكافة النُّسَخ الأخرى منسوخة منها بأخطائها وتصحيفاتها، فأشار الدكتور في هذه الحالة إلى أن الاكتفاء بالنسخة الأصل المنسوخ منها يغني عن باقي النُّسَخِ الأخرى.
ثم أشار الدكتور إلى وجود بعض المزايا التي تمتاز بها بعض النُّسَخ، كأن تكون النسخة بخط المؤلف، أو بخط أحد تلاميذه، أو قرأها المؤلف، أو عليها سماعه أو إجازته، أو كتبها أحد العلماء، أو قرأها أحد العلماء، وغير هذا من المزايا التي تزيد من القيمة العلمية للنسخة.
ومن استمع إلى ما تحدَّث به الدكتور عن النُّسَخ الخطية يجد أنه يحترق غيرةً وألماً على تراثنا المكنوز، مما أصابه من عبث النُّساخ الذين يعبثون بالكتب، ومن مفهرسي المخطوطات الذين يعبثون بنسبة الكتب دون أدنى اهتمام إلا من رحم الله.
((4)) ثم تأتي المرحلة الرابعة، وهي "مرحلة البدء في التحقيق"، وأسهب الدكتور كثيراً في الحديث عن هذه المرحلة نظراً لأهميتها وتأثيرها المباشر في القيمة العلمية للتحقيق.
وبيَّن الدكتور أن مناهج التحقيق لا تخلو من طريقتين:
الطريقة الأولى: وِفق منهج النسخة الأم، وهو أن يختار الباحث إحدى نُسَخ مخطوطه فيجعلها الأصل أو الأم، ثم يقابل عليها باقي النسخ الأخرى؛ على ضوء ما سيبينه حديث الدكتور في طيات النقاط الآتية إن شاء الله.
الطريقة الثانية: وِفق منهج التلفيق بين النُّسَخ، وهو أن يُلَفِّقَ - أو يُوَفِّقَ - الباحث بين نُسَخ المخطوط دون أن يعتمد إحدى النُّسَخ أصلاً يعتمد عليه.
وتكرَّم الدكتور بتفصيل الحديث عما يتعلق بهاتين الطريقتين بصورة واسعة جداً، وسأحاول فيما يلي ذكر أبرز النقاط التي تحدث عنها فيما يتعلق بمرحلة البدء في التحقيق.
فبيَّن الدكتور أن لاختيار النسخة الأم معايير وضوابط، منها قِدَم النسخة، وذلك بمعرفة تاريخ نسخها أو وجود سماع للمؤلف أو لأحد تلاميذه عليها ونحو ذلك، ومنها أن تكون مكتوبة بخط المؤلف أو أحد تلاميذه، أو بخط عالِمٍ من العلماء، أو تكون عليها تعليقات للمؤلف أو أحد العلماء، أو تكون خالية من التصحيف والسقط، ونحو ذلك من المزايا التي تمتاز بها النُّسَخ بعضا عن بعض.
ونوَّه الدكتور بأن النسخة التي تمتاز بشيء من هذه المزايا ليست معصومة عن أن تتضمن خطأً أو سهواً أو وهماً، بل لربما كان السهو أو الوهم من المؤلف أو العالِم الذي كتبها ونحو ذلك.
وأشار الدكتور إلى أن نص الكتاب المحقق "نص مقدس" لا يجوز لأحد أن يُبدِّل فيه أو يُعدِّل، والمحقق مُلزَمٌ بأن يكتب النص كما أراده مؤلف الكتاب، ثم له أن يعلق عليه في الحواشي بما يريد.
وأشار الدكتور إلى أن عمل الباحث من خلال "منهج النسخة الأم" يقتضي أن يُثبت الأصل في متن الكتاب، ويشير إلى اختلافات النُّسَخ الأخرى في الحاشية، مع تأكيده على أن الاختلافات المقصودة هي الاختلافات التي لها محل من النظر، أما الاختلافات السطحية التي لا يترتب عليها فائدة علمية فيرى الدكتور ألا طائل من إثقال حواشي الكتاب بها، ومثَّل الدكتور لهذه الاختلافات السطحية بكلمة: [تعالى] في بعض النسخ، وفي بعضها الآخر: [سبحانه وتعالى]، ونحو ذلك من الاختلافات التي تكون غالباً من النُّسَّاخ.
كما نبَّه الدكتور على أن المحقق مطالَب بأن يُدوِّن كل الاختلافات الواردة في النُّسَخ الأخرى عن النسخة الأم، ثم يقوم بعد فراغه من حصر الاختلافات بإثبات الاختلافات المهمة والجوهرية ويغض الطرف عمَّا سوى ذلك.
وأشار إلى أن عمل الباحث من خلال "منهج التلفيق بين النُّسَخ" يقتضي أن ينظر المحقق في النُّسَخ التي بين يديه، ثم يختار الصواب فيضعه في المتن، ويشير إلى اختلافات النُّسَخ الأخرى في الحاشية، مع تأكيده مجدداً على أن الاختلافات التي تستحق الذكر هي التي لها محل من النظر.
وحثَّ الدكتور على التخفيف من [المعقوفتين] في المتن، وذلك لمن ينتهج منهج التلفيق بين النُّسَخ، بل يرى الدكتور أن [المعقوفتين] يجب أن تكون فقط عند من ينتهج منهج النسخة الأم، وأما عند التلفيق بين النُّسَخ فلا داعي للإكثار من [المعقوفتين] طالما أن المحقق لم يعتمد نسخة يعتمد عليها اعتماداً كلياً.
¥