عنه، وفي هذا خلخلة لمرجعية فهم القرآن الكريم النابعة أساساً من داخله (أي القرآن نفسه، والسنة النبوية، واللغة العربية التي تجلَّى فيها النظم القرآني).

وفيه أيضاً إضفاءُ شيء من الهالة والتعظيم على الحضارة الغربية، التي أصبحت بهذه الطريقة أحد مقاييس صدقية الوحي، وأصبحت "الحقائق العلمية" التي تأتي بها هي إحدى الضمانات للأخذ ببعض نصوصه، وفي هذا ما فيه من زيادة الافتتان بالغرب وحضارته، وزيادة هيمنته على العقلية الإسلامية التي حصرت مهمتها في كثير من الحالات بمتابعة الإنتاج العلمي في الغرب، والبحث عن مدى مطابقة هذا الإنتاج لنصوص الوحي.

وقد يكون من الحقيقة القول: إنََّّ الذي دفع الشيخ طنطاوي جوهري في هذا الاتجاه هو رغبته الصادقة والحميمة في دفع المسلمين إلى الانخراط في ميدان البحث والإنتاج العلمي في كل المجالات الكونية الذي مكَّن الغرب من التفوق على العالم الإسلامي بمراحل كثيرة، ومكَّنه من استعباد أبنائه، واحتلال بلاده، وهي دعوة بحد ذاتها ضرورية، وأتت في وقتها المناسب، ويمكن النظر إليها على أنها جهدٌ إصلاحي كبير يصبّ في مصلحة الأمة وسيادتها وتقدّمها، لكنه رحمه الله تعالى قد أخطأ الوسيلة المناسبة للقيام بهذه الدعوة عندما أقحم العلوم الكونية بتفصيلاتها المتغيرة بين دفتي تفسيره، ودعا إلى فهم القرآن الكريم في ضوئها، حيث كان يكفيه التركيز على ضرورة الاستفادة من الآيات القرآنية الداعية إلى العلم والتفكر والتدبر، والنظر في السموات والأرض، والسير في الأرض، وقراءة التاريخ، والبحث في الآفاق والأنفس، ومعرفة سنن الله تعالى في الكون والتاريخ والأمم كما دعا القرآن الكريم نفسه إلى ذلك في آيات كثيرة؛ للفت نظر المسلمين إلى تقصيرهم في ميدان العلم بمفهومه الشامل، وأثر هذا التقصير في فساد أحوالهم وأحوال مجتمعاتهم، وحثهم على تدارك هذا التقصير التاريخي بالانفتاح على كافة العلوم الكونية والإنسانية، والبحث والإبداع فيها جنباً إلى جنب كل العاملين في هذه المجالات، دون أن يضطر إلى الوقوع في الخطأ المنهجي الذي وقع فيه، أي تسخير القرآن الكريم لدلالات العلوم المتغيرة التي قد يؤدي تغيرها، وتناقضها أحياناً إلى نزع الثقة بالقرآن الكريم نفسه عند بعض الناس، وهذا ما لا يريده جوهري قطعاً.

الآثار الاجتماعية:

وفي الحقيقة، فقد تم استقبال هذا التفسير بشيءٍ من الفتور، وأحياناً بشيء من الإعراض والتجاهل في مصر، وبعض البلاد العربية في الأوساط الدينية ذات الثقافة التقليدية [42]، وربما يعود سبب هذا الفتور والإعراض، إلى ما ذهب إليه الشيخ بحماس شديد من تفسيرٍ للقرآن الكريم على ضوء النظريات العلمية، التي لم تصل هي نفسها بعد إلى درجة الحقائق العلمية، وما قام به من حشدٍ للمسائل الكونية في تفسيره دون إحكام الصلة بينها وبين السياق التفسيري الذي جاءت فيه.

وكذلك يمكن القول إنّ أحد أسباب ضعف استقبال تفسير "الجواهر"، وزهد كثير من الناس فيه، وبشكل خاص طلاب العلوم الشرعية، هو الحضور الكثيف للعلوم، والفلسفة ومصطلحاتها فيه، وحضور علم الأرواح وحوادثه وأحواله فيه ضمن إطار ورؤية فلسفية عميقةٍ شيئاً ما، وهو الأمر الذي استفزَّ الحسَّ الديني العفوي الذي لا يطيق صبراً على الفلسفة وتجريداتها، وهو بمنهجه هذا يكون قد خالف الشيخ محمد عبده (ت 1905م)، ومن قبله ابن رشد (ت 595هـ)، اللذيْن صرّحا بأن خلط الدين بالفلسفة خطأٌ معرفي ومنهجي في الآن نفسه، في حين أن دراسة الفلسفة بشكل مستقل أمر نافع بل يشكِّل ضرورة معرفية للعقل الإسلامي الباحث عن الحقيقة، والمستكشف للكون وآفاقه، أما خلطها بالدين فهو مُفسدٌ لها، وللدين نفسِه إذ لكل منهما منهج وموضوع يختص به دون الآخر، ومصلحة الاثنين تكمن في تعاونهما دون أي دمج أو تداخل بينهما على مستوى المنهج أو الموضوع [43].

وهذا هو الخطأ الكبير الذي وقع فيه جوهري عندما خلط الدين بالفلسفة، وقد دفع ثمن هذا الخلط غالياً، عندما زهد كثيرٌ من القراء فيه، ونظر عددٌ آخر منهم إليه نظرة ريبة وشكٍّ، وبهذا تقلصت قاعدة قرائه بشكل عام، وعجز بالتالي عن توصيل رسالته الإصلاحية كما كان يحب، ويريد من خلال تفسيره.

¥

طور بواسطة نورين ميديا © 2015