وفي هذا السياق نفسه، يمكن القول إنّ أحد أسباب محدودية انتشار تفسير الجواهر أيضاً، هو أنه نصٌ فاجأ قراءه آنذاك بمرجعية غربية بعيدة عن المرجعية الإسلامية الخالصة، وصادف أنَّ المرجعية الغربية في ذلك الوقت كانت تُشكِّل بالنسبة للوعي الجمعي الإسلامي، الذي يكتب من خلاله، وله، اعتداءً صارخاً عليه وعلى أرضه، ومقدساته، ورموزه لذلك حُكم بالإقصاء والإهمال على تفسير جوهري، وسبب استمرار هذا الإقصاء حتى على مستوى بعض النخبة المثقفة من المسلمين هو استمرار الظرف التاريخي المُنتج للحساسية والنفور من الغرب وثقافته من خلال استمرار حدوث ظواهر اعتداء الغرب على البلاد الإسلامية بين الحين والآخر تحت هذه الحجة أو تلك.

ولكن وفي مقابل هذا الموقف المتحفّظ بشكل عام في مصر، والعالم العربي، فقد لقي تفسير "الجواهر" إقبالاً كبيراً عند مسلمي آسيا، حيث شهد رواجاً كبيراً في الهند، وأفغانستان، وتركستان، والصين، واليابان، وبلاد الملايو، وقامت لجان مختلفة في بعض هذه البلاد بترجمته أو ترجمة أجزاء منه إلى لغاتهم المحلية. [44]

ويمكن تفسير سبب إقبال المسلمين في تلك البلاد على تفسير "الجواهر"، على خلاف ما حدث في مصر، والبلاد العربية عموماً، بأن ضعف اتصال المسلمين في تلك البلاد بالعلوم الشرعية بشكل عام، وعدم اطلاعهم الكافي على التراث التفسيري، ومناهج المفسرين السابقين فيه بشكل خاص، بسبب حاجز اللغة، وبسبب خضوع معظمهم لأزمان طويلة لسلطات أجنبية منعتهم من الاتصال بتراثهم الديني، صرفهم عن معايرة هذا التفسير بالتفاسير السابقة، وبالتالي صرفهم عن ملاحظة مدى ابتعاده عنها بما اختطه صاحبه لنفسه من منهج مختلف عما اعتمده القدماء في التفسير، هذا من جهة، وبسبب شوقهم الشديد لإنجاز نهضة إسلامية في بلادهم تضارع النهضة الكبيرة التي كانوا يراقبونها عن كَثَب تجري عند اليابانيين والصينيين والروس المجاورين لهم من جهة أخرى، والتي كانوا يُرجعونها إلى إقبال هذه الشعوب على العلوم الكونية، وتقصيرهم هم في هذا المجال بسبب النظرة الدينية الخاطئة لمنزلة العلوم واكتشاف الكون وتسخيره في الإسلام التي كان يشيعها بينهم بعض الفقهاء المقلدين، وبعض رجال الصوفية الجاهلين، لذلك فقد وجدوا في هذا التفسير الدواء الشافي الذي يتطلعون إليه للحاق بركب النهضة والتقدم الذي سبقهم إليه جيرانهم.

وأخيراً، تجدر الإشارة إلى أنَّ الشيخ طنطاوي كان يبالغ أحياناً في تقدير أهمية تفسيره [45]، والنظر إليه على أنه مرحلة حاسمة في تاريخ التفسير، فها هو يحدثنا عن تفسيره بهذه الكلمات الملحمية: "ولتعلمنَّ أيها الفَطِن: أنَّ هذا التفسير نفحةٌ ربانية، وإشارة قدسية، وبِشارة رمزية، أُمرتُ به بطريق الإلهام، وأيقنتُ أنَّ له شأناً سيعرفه الخلق، وسيكون من أهم أسباب رقيّ المستضعفين في الأرض" [46]. و"الأمم الحاضرة لا تصلح لرقي نوع الإنسان، واعلموا أن هذا الكتاب ستعقبه نهضة في الشرق، يتلوها رجة في الغرب، ويعقبها سعادة الإنسان، ولتعلمن نبأه بعد حين" [47].

والحق أنَّ كتابه يمتلك شخصية متميزة ومستقلة في تاريخ التفسير، ولكن هذه الشخصية المستقلة لا تعني في أي حالٍ من الأحوال أنَّ هذا التفسير قد قطع مع التفاسير السابقة، وأسس لمنهجٍ جديد كلياً في ميدان تفسير القرآن الكريم، لأننا نجده في الأقسام العامة من تفسيره التي لا يتعرض فيها للمسائل العلمية والروحية والإصلاحية، مجرد مفسِّر تقليدي في الغالب، يأخذ من التراث التفسيري أعم الأفكار وأبسطها وأقربها لعامة عقول قرائه. ويمكن القول هنا إنّ تقليدية جوهري في التفسير، وعدم حرصه على الخوض في القضايا التشريعية والأصولية واللغوية التي يمكن أن يثيرها المفسرون المتعمقون، تعكس تركيزه على تناقضه الرئيس مع منكري الوحي، وأساسه الغيبي، الذين أنكروا تبعاً لذلك ضرورة الدين في عصر العلم والتقدم.

وفي مقابل ذلك، لم يكن جوهري يرى كبير مشكلة في منظومة العلوم الشرعية الدينية ـ

كما وصلت إلى عصره ـ إلا من حيث علاقتها برؤيته الإصلاحية الداعية إلى إفساح المجال واسعاً داخل هذه المنظومة لدراسة العلوم الكونية، والاستجابة لدواعي، ومقتضيات المدنية الحديثة.

¥

طور بواسطة نورين ميديا © 2015