مكان له في العالم الحديث، عالم العلم والتقدُّم.

ولكن إقرار رضا لجوهري بهذا الدور الكبير الذي لعبه في خدمة وجلاء الوجه الحضاري للإسلام، لم يمنعه من نقده بسبب اقتصاده في بيان المعاني القرآنية، وبسبب حشده كماً هائلاً من المعلومات العلمية في سياق تفسيره، دون أن يكون لهذه المعلومات ضرورة في بيان المعنى المقصود من الآيات المفسَّرة، بل على العكس من ذلك فقد تقف هذه المعلومات الكثيفة حاجزاً دون الفهم المنشود من الآيات، وبالتالي تصرف ذهن القارئ لهذا التفسير عن مقاصد القرآن وهديه.

ولقد انتبه الشيخ أمين الخولي (ت 1966م) لما انتبه إليه من قبله رشيد رضا، عندما أدرك أنّ التفسير العلمي للإشارات الكونية الواردة في القرآن الكريم سيحول بين الناس ـ بسبب التفاصيل العلمية الكثيرة والمعقدة التي يستخدمها، والتي تندٌّ في مجملها عن تفكير المسلم العادي ـ وبين إدراك الدلالة المقصودة أصلاً من وراء هذه الإشارات، وهي: إثارة الشعور والفكر البشري بجمال وجلال الظواهر الكونية، وتنبيههما إلى مدى دلالتها من خلال نظامها الذي تجلت من خلاله على عظمة وقدرة الخالق الحكيم، فاطر هذا الكون، وصاحب الأمر فيه. وما يمكن أن تؤدي هذه الإثارة في النهاية من غرسٍ لعقيدة التوحيد من أقرب وأوضح طريق يشترك الناس كلهم، بنسب متفاوتة، في ملاحظته وإدراكه، ومن دفعٍ لهم بعد ذلك للإقبال على ضروب الهداية، ووجوه الإصلاح المودعة في القرآن الكريم. وهكذا، فكلُّ زيادة، وتوسُّع، وتكلُّف في تفسير هذه الإشارات القرآنية ستكون لا محالة إشغالاً للعقل الإسلامي بالوسيلة على حساب المقصد، وهذا الإشغال لا يتفق مع هدف القرآن من وراء استخدام هذه الإشارات. لذلك يرى أمين الخولي أنه "من الخير ألا توجه العناية إلى مثل هذا الضرب من التفسير العلمي، لأنه ليس بذي جدوى على القرآن نفسه، والقرآن غني عن أن يعتز بمثل هذا التكلف الذي يوشك أن يخرج به عن هدفه الإنساني الاجتماعي في إصلاح الحياة، ورياضة نفوس الناس جميعاً على اختلاف حظهم من العلوم الطبيعية الرياضية وما إليها" [39].

وقد اتفق مصطفى الطير، وهو من علماء التفسير في العصر الحديث، في تقويمه العام لمنهج الشيخ جوهري مع الشيخ رشيد رضا، حيث أثنى، من جهةٍ على الشيخ طنطاوي وعلى جهوده المخلصة في ميدان نهضة المسلمين العلمية، ومن جهة أخرى فقد نقَدَ إسرافه في حشد العلوم بين دفتي التفسير، وانتقده أيضاً لإقحامه آراء المدرسة الروحية الحديثة في التفسير، وخصوصا تحضير الأرواح، ومعرفة الغيب عن طريق الاتصال بالأرواح، وإعطائها مشروعية دينية وعلمية انطلاقاً من آيات قرآنية لا تحتمل هذه المعاني على الإطلاق [40].

ويقول في هذا الاتجاه نفسه محمد محمد حسين: "وأكبر ما يؤخذ على طنطاوي جوهري في كتبه، وفي تفسيره على وجه الخصوص، نُقوله الكثيرة في مواضع مختلفة متعددة عن دعاة تحضير الأرواح من الغربيين وانخداعه بدعاواهم ظناً منه أن ذلك يساعد على رد تيار الإلحاد الذي ينكر الحياة الأخرى، وينكر الحساب والثواب والعقاب. والواقع أن هؤلاء الروحيين كانوا ينشرون إلحاداً من نوع جديد" [41].

ونضيف إلى ما سبق القول: إنَّ لجوء طنطاوي إلى الاجتهادات البشرية في ميدان العلم الكوني في تفسيره للآيات القرآنية التي تحمل إشارات علمية، واستعانته بما استطاع تحصيله من علوم العصر، التي أخذ مادتها بشكل أساسي من علماء الغرب الذين يقولون هم أنفسُهم عن علومهم واكتشافاتهم بأنها علوم نسبية وخاضعة دائماً للمراجعة والتغيير والنقد على ضوء المستجدات العلمية، ما هو في حقيقة الأمر إلا تسليطٌ للمعارف المتغيرة بطبيعتها على الحقائق القرآنية التي يُفترض فيها الثبات والقطعية، وبذلك فقد فتح طنطاوي الباب، بعمله هذا من حيث لا يشعر، ولا يريد قطعاً، للعبث بالمدلولات القرآنية، وجعلها ساحةً للإثبات والنفي على حسب تغيُّر المعطيات العلمية التي تُفَسَّر بها، وفي هذا العبث ما فيه من الفساد والإساءة إلى فهم القرآن الكريم وتفسيره، هذا بالإضافة إلى جعل العلوم المتغيرة بطبيعتها ـ ومِن ورائها مَنْ يُنتج هذه العلوم، وهم في الأغلب علماء الغرب على الأقل على المدى المنظور ـ مرجعيةً ضروريةً لفهم القرآن الكريم، وبالتالي جعل المعنى القرآني تابعاً بشكلٍ أو بآخر لشيءٍ خارج

¥

طور بواسطة نورين ميديا © 2015