وهكذا نفهم أنّ إدراج جوهري في تفسيره مئات الصفحات من المعلومات الكونية، حتى لو يكن لها أدنى علاقة بالآيات المفسَّرة إلا ورود اسم أو لفظ له علاقة بالأمور الكونية، لم يكن إدراجاً معرفياً فقط، كما قد يتبادر إلى الذهن، بل كان بالإضافة إلى ذلك تكتيكاً إيديولوجياً حاول من خلاله نفع الأمة وإنهاضها، وتأهيلها للتصدي للاستعمار والانعتاق من سلطته التي تعيق نهضة وتقدّم المجتمعات الإسلامية.

ـ تسود التفسير من أقصاه إلى أقصاه روح إصلاحية متوهجة، تدعو بحماس وإخلاص منقطعي النظير إلى إصلاح أحوال العالم الإسلامي، وتدعو المسلمين إلى استئناف نهضتهم، واستعادة دورهم التاريخي في العالم، وهي لا تفتر في تشخيص علل وأمراض الأمة الإسلامية، وتقترح في مقابل هذه العلل حلولاً ومخارج، كان يرى رحمه الله تعالى أنها مصيرية، وحاسمة، ولا بدّ من الأخذ بها [36].

وبسبب شدة وضوح وحضور هذه الروح الإصلاحية، يمكن لنا أن نصف تفسير جوهري بأنه تفسير عملي نضالي، بمعنى أنّ جوهري كان يحرص دائماً على توجيه كلامه لا لمجرد الإعلام والبيان والإظهار، بل من أجل دفع القارىء إلى ميدان الحركة والعمل، ميدان الانخراط في تبني وإنجاز المشروع الإصلاحي الذي يدعو إليه. فهو لا يكف عن توجيه الخطاب إلى القارىء الذكي، وإلى عموم الأمة الإسلامية ممثلة بعلمائها وأمرائها وحكامها، وحثهم على أن ينهضوا جميعاً، ويلتفوا حول أفكاره الإصلاحية قياماً بحق الإسلام، ونهضته العتيدة في العصر الحديث [37].

وبهذا قد يحق لنا النظر إلى تفسير "الجواهر"، على أنه خطاب سياسي، بمعنى من المعاني، وذلك على اعتبار أنّ الخطاب السياسي بمعناه الواسع هو كل خطاب يتجه إلى مجموعة بشرية محددة، ويحاول توجيه سلوكها، ونمط حياتها في اتجاه محدد.

نقد وتقويم:

يقول رشيد رضا في معرض تقييمه لتفسير "الجواهر" رداً على سؤال ورد إلى مجلته من سائل تونسي يسأله عن قيمة هذا التفسير: "الأستاذ الشيخ طنطاوي مغرم بالعلوم والفنون التي هي قطب رحى الصناعات والثروة والسيادة في هذا العصر، ويعتقد بحق أنَّ المسلمين ما ضعفوا، وافتقروا، واستعبدهم الأقوياء إلا بجهلها، وأنهم لن يقووا، ويثروا، ويستعيدوا استقلالهم المفقود إلا بتعلمها على الوجه العملي بحذقها مع محافظتهم على عقائد دينهم، وآدابه، وعباداته وتشريعه، ويعتقد حقاً أن الإسلام يرشدهم إلى هذا بل يوجبه عليهم، فألف كتباً صغيرة في الحثّ على هذه العلوم والفنون، والتشويق إليها من طريق الدين، وتقوية الإسلام بدلائل العلم، ثم توسَّع في ذلك بوضع هذا التفسير الذي يرجو أن يجذب طلاب فهم القرآن إلى العلم، ومحبي العلم إلى هدى القرآن في الجملة، والإقناع بأنه يحث على العلم لا كما يدَّعي الجامدون من تحريمه له، أو صدِّه عنه، فهو لم يُعن ببيان معاني الآيات كلها، وما فيها من الهدى والأحكام بقدر ما عُنيبسرد المسائل العلمية، وأسرار الكون وعجائبه .. ولا يمكن أن يُقال: إنَّ كل ما أورده فيه يصح أن يُسمَّى تفسيراً له، ولا أنه مُراد الله تعالى من آياته، وما أظن أنه هو يعتقد هذا .. وجملة القول إن هذا الكتاب نافعٌ من الوجهين اللذين أشرنا إليهما .. وصاحبه جدير بالشكر عليه، والدعاء له، ولكن لا يعوّل عليه في حقائق التفسير، وفقه القرآن لمن أراده، فإنه إنما يذكر منه شيئاً مختصراً منقولاً من بعض التفاسير المتداولة" [38].

نلاحظ، من هذا النص، أنّ رشيد رضا قد أدرك عِظَم المهمة الإصلاحية التي نذر لها طنطاوي نفسه من خلال تفسيره، ألا وهي دعوة المسلمين لاستعادة نهضتهم الحضارية، واستقلالهم السياسي عن طريق تقريب العلم من أهل التدين، وتقريب الدين من أهلالعلم، ولا يستطيع أحدٌ أن يعرف قيمة هذه المهمة الجليلة إلا إذا علم أنّ مصر، وعموم بلاد العالم الإسلامي في مطلع القرن العشرين كانوا يعيشون أزمة روحية كبيرة كادت تقتلعهم من جذورهم، بسبب ظهور علامات تفوق الغرب الباهر على المسلمين في كافة الميادين العلمية، الأمر الذي دفع بكثير من المسلمين إلى فقدان الثقة بأنفسهم ودينهم، وإلى الاعتقاد أنّ الإسلام هو المسؤول عن تخلف المسلمين العلمي والحضاري، وقد دفع هذا الاعتقادُ الساذجُ الكثيرَ منهم إلى التخلي عن الإسلام والاستهتار به، ووصفه بأنه دين التخلف ودين القرون الوسطى المظلمة، ولا

¥

طور بواسطة نورين ميديا © 2015