(وَالْقَمَرِ إِذَا تَلَاهَا) القمر: كوكب، وليس نجمًا، كما الشمس، فالشمس جرم ملتهب، ولذلك يبعث الحرارة، أما القمر فإنه كوكب بارد، ليس فيه حرارة، وإنما هو مرآة يعكس نور الشمس على الأرض، ولذلك تكون إضاءته بحسب حاله من الشهر، فأول الشهر يكون هلالاً، لكون الأرض تحجب معظمه، منه فلا يقع عليه ضوء الشمس، ثم لا يزال يتسع، ويتسع حتى يصل إلى درجة الإبدار في منتصف الشهر، حينما يكون مستقلاً، منفصلاً، وجاه الشمس، ثم يأخذ في آخر الشهر بالانحسار، حتى يتدأدأ، ثم ينمحق، ويستسر، ثم يبدأ دورة من جديد. فحينما يقسم الله - تعالى - بهذه المخلوقات ينبه على منافعها، وعلى جريانها، الذي يدركه كل أحد.

(إذا تَلَاهَا) أي تبعها طالعاً بعد غروبها؛ وذلك أنه لا سلطان للقمر، مع سطان الشمس، فإن ضوء الشمس يغلب ضوء القمر، حتى لو رؤى القمر أحياناً، أثناء النهار، فإنما يرى كما يرى الغيم، أبيض، خافتاً، غير مشع، فسلطان الشمس، وضوؤها، أعلى، وأقوى من ضوء القمر؛ لأنه فرع عنه، فلذا قدمه بالذكر.

(وَالنَّهَارِ إِذَا جَلَّاهَا) يعني: إذا ارتفعت فيه الشمس، وبان ضوؤها. وكأنما هذا النهار صفحة لظهور الشمس؛ فالنور المنبعث من جهة ما، لا يعلم أنه نور حتى يصطدم بحائل، فلذلك تحصل تجليتها بارتفاعها وبيان ضوئها على الأرض وقت النهار

(وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَاهَا) أي: غطى بظلمته عند المغيب. ومرجع الضمير للشمس؛ كما الضمائر السابقة، فكأنما الليل يغشى الشمس الذي انسحب ضوؤها، وحل محله الظلام.

(وَالسَّمَاءِ وَمَا بَنَاهَا): السماء معروفة، وهي السقف المرفوع فوقنا. وإنما سميت سماء من السمو، وهو الارتفاع. وهذا التعبير (بناها) يدلنا على أن السماء جسم، وليست عماء. قال الله - عز وجل - (وَجَعَلْنَا السَّمَاءَ سَقْفًا مَحْفُوظًا). كما أنها طبقات، بعضها فوق بعض، قال تعالى: (الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَوَاتٍ طباقاً).

(وما بناها) ما: تحتمل معنيين: إما أن تكون موصولة بمعنى من، أو تكون مصدرية. فإن قلنا هي موصولة، فقد أقسم الله - تعالى – ببانيها، وهو الله - تعالى - نفسه.

وإن كانت المصدرية، فيكون تقدير الكلام: والسماء وبناءها. بمعنى خلقها. ولا شك أن هذا البناء من الله - تعالى - لكن البناء نفسه، مخلوق، فيكون الله - تعالى - قد أقسم أيضا بخلقٍ من خلقه، كما أقسم بالسماء.

(وَالْأَرْضِ وَمَا طَحَاهَا) المراد هذه الأرض المبصرة، وهي: التي يدب عليها الآدميون، والحيوان، والهوام، والزواحف، وغيرها.

(طحاها) أي: بسطها، بمعنى أنه جعلها منبسطة للسائرين، ممهدة لهم. ويقال في (مَا) ما قيل في (ما بناها) فإما أن تكون (ما) بمعنى من أو تكون (ما) بمعنى المصدرية.

وهذه مشاهد كونية متقابلة. وهي مشاهد تتكرر على كل آدمي، ولكنه لا يلقى لها بالاً، ولا يرفع بها رأساً، ولا يتأمل بديع صنع الله، وحكمته البالغة في تسير هذا الكون، وما ينبغي أن يتوصل إليه من العبودية لهذا الخالق العظيم، الذي أوجد هذا النظام البديع، وهذا النسق المميز. ففيها تحريك لهذه القلوب الغافلة، والنفوس البليدة، لتبصر، وتتفكر فيما حولها، ولا تكتفي بالنظرة السطحية التي لا تثمر لها شيئا

(وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا): (وَنَفْسٍ) اسم جنس لكل نفس. ومعنى (سواها) أي: خلقها سوية معتدلة. و (ما): يتكرر فيها ما تقدم من أن تكون بمعنى الذي، أو بمعنى المصدر.

(فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا) هذا التفصيل جاء بين القسم والمقسم عليه. ومعنى (أَلْهَمَهَا) كما قال الراغب الأصفهاني - رحمه الله - في (مفردات القرآن): (الإلهام: إيقاع الشيء في الروع، ويختص ذلك بما كان من جهة الله - تعالى - وجهة الملأ الأعلى) كقول النبي: - صلى الله عليه وسلم - (إن روح القدس نفث في روعي، أنه لن تموت نفس حتى تستكمل رزقها وأجلها)

وقد اختلف في المراد بالإلهام في هذا السياق:

- فقيل: بيَّن لها الخير والشر، أي: علمها.

- وقيل: جعل فيها القبول للخير والشر، أي: خلق فيها.

¥

طور بواسطة نورين ميديا © 2015