فمعنى قوله (فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا) أي: جعل فيها الاستعداد لقبول الخير، والاستعداد لقبول الشر. ففيها تهيؤ لكلا الأمرين. وبذلك تميزت عن النفس الملَكية، وعن النفس الشيطانية. فإن النفس الملَكية، متمحضة للخير، فقط. فملائكة الرحمن يسبحون الليل والنهار (لا يفترون)، (لا يسئمون)، (لا يستحسرون)، لا تحدثهم نفوسهم إلا بطاعة الله، وتقواه. والنفوس الشيطانية، نفوس متمحضة للشر، فقط. ليس فيها نازع خير. أما النفس الإنسانية فجاءت بين بين. ركب الله - تعالى - فيها نوازع للخير ونوازع للشر. ولأجل ذلك كانت محل الابتلاء، والاختبار. فبعد أن بيَّن الله حقيقة النفس، قال إثر ذلك، وهو جواب الأقسام المتعددة السابقة:

(قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا) الفلاح: هو الفوز بالمطلوب، والنجاة من المرهوب.

(وَقَدْ خَابَ) أي: خسر. ومعنى (دساها) أي: أخفاها، من التدسية، وهي: الإخمال، والإخفاء، بالكفر، والذنوب، والأخلاق الدنيئة. ولفظ الكفر، نفسه، يدل على التغطية. ولهذا سمي الزراع كفارا؛ لأنهم يغطون البذور بالتراب. فأصل الكفر التغطية، لأن الكافر غطى فطرته، وأخفاها. فالواجب أن يسعى المرء إلى الفلاح بتزكيتها، وأن يتجنب الخيبة، والخسار بتدسيتها. فوظيفة ابن ادم في هذه الحياة، أن يزكي نفسه، بتنمية بواعث الخير، وإخفاء، وإقصاء نوازع الشر. هذا مشروع العمر، وهذه خطة الحياة، لمن أراد النجاة من المرهوب، والفوز بالمطلوب.

وهذا في الحقيقة مبحث مهم، يتعلق بفقه النفس. ويوجد له علم مستقل، يسمى (علم النفس) وهو من العلوم الإنسانية، اشتغل به جميع من في الأرض، يسمونه (سيكولوجي) أي: علم النفس. ولكن علم النفس الحديث، تكوَّن بعيدًا عن نور الكتاب والسنة، واعتمد على الملاحظة والاستنتاج، المجردين. ولا شك أن علم النفس قد توصل إلى نتائج مفيدة، وكون تراكمات علمية صحيحة، إلا إنه لا يزال قاصرًا قصورًا عظيمًا، لأنه لم يستنر بنور الوحي. فعلماء النفس المعاصرون، ومن سبقهم، يرون أن مقتضى البحث العلمي، تنحية جميع الأمور الغيبية، والدينية عن مجال بحثهم! وهذا في الحقيقة حرمان، وخسران، فإن الله - تعالى - هو خالق النفس، وقد قال: (أَلا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ). فخالق النفس أعلم بمن خلق، وما خلق. فإذا حدثنا الله - تعالى - عن النفس الإنسانية، فكلامه كلام العليم الخبير، فمن زهد به، واستغنى عنه، فإنه يقع في قصور عظيم، وضلال بعيد. ولأجل هذا نجد علماء الملة، الذين توجهوا إلى العناية بتهذيب النفوس، وإصلاح القلوب، هدوا هداية عظيمة، بفضل استنارتهم بنور الكتاب والسنة، وتوصلوا إلى لب الموضوع، وأصابوا كبد الحقيقة، بأقصر طريق، كما تجد هذا النفس الإيماني المشرق، الذي ينفذ إلى الحقيقة مباشرة، في كلام الأئمة الأعلام، كشيخ الإسلام ابن تيمية، وتلميذه ابن القيم،، رحمهما الله.

بينما يتخبط علماء النفس القدامى، والمحدثون، في نظريات مختلفة، تُطوِّح بهم يمينًا، وشمالاً، بسبب هذه النزعة العَلمانية، التي تنحي الدين جانبًا، وتتعامل مع الماديات فقط، فلا يهتدون إلى الحقيقة الكاملة، وإن أدركوا بعضها.

وبهذا يتبين اختلاف الخطة في فهم النفس الإنسانية، ومعالجتها، بين أهل الإيمان، وبين أرباب المدارس النفسية المختلفة. فمدرسة (سجموند فرويد) تنظر إلى النفس الإنسانية نظرة جنسية بحتة، وأن دوافع الإنسان المختلفة نابعة من الغريزة الجنسية، فيفسر تصرفاته، ويلبي حاجاته بناءً على هذا الأساس.

وهناك من ينظر إلى الإنسان بوصفه المادي، الحسي، البهيمي. فنظرته للإنسان نظرة الباحث عن الطعام، فيهتم بتلبية هذه الجوانب المادية، ولا يلقي بالا للجوانب الوجدانية.

وهناك، على النقيض، من ينظر إلى الجوانب الإشراقية، والروحانية، فيُغرِق فيها، كما في الفلسفات الشرقية المختلفة، التي تدعو إلى تعذيب الجسد، في سبيل انعتاق الروح، لبلوغ درجة (النرفانا)، كما يوجد في البوذية والهندوسية.

¥

طور بواسطة نورين ميديا © 2015