- وقال بعضهم إبراهيم وولده؛ لمناسبة ذكر مكة (البلد)
وهذا في الواقع يرجع إلى القول الأول؛ لأنه من تفسير الشيء ببعض أنواعه، والأولى العموم؛ لأن اللفظ العام يشمل جميع أفراده. على أنه قد قيل أيضًا: والد، وغير والد، على اعتبار أن (ما) نافية، كأنه قال: ووالد، وعاقر. وأما على ما تقدم من ذكر العموم، فإنها موصولة.
(لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ فِي كَبَدٍ): اللام جاءت في جواب القسم و (قد) تفيد التأكيد والتحقيق. والمراد جنس الإنسان، أو الكافر، خاصة.
(كَبَدٍ): قيل في تفسيرها: الشدة، والنصب، والعناء. وعلى هذا فإن قلنا أن المراد بالإنسان: جنس الإنسان، فالمعنى: أن كل إنسان يكابد في هذه الحياة، ويعاني ويشقى. كما قال تعالى لآدم، حينما وصف له الجنة: (إِنَّ لَكَ أَلَّا تَجُوعَ فِيهَا وَلَا تَعْرَى (118) وَأَنَّكَ لَا تَظْمَأُ فِيهَا وَلَا تَضْحَى)، وقال قبل ذلك: (فَلَا يُخْرِجَنَّكُمَا مِنَ الْجَنَّةِ فَتَشْقَى) فمن خرج من الجنة إلى الدنيا فهو في شقاء، وهو المعاناة، والمكابدة، وما يلحق الإنسان في جميع أطواره، من عنت، ومشقة. وهذا أمر يستوي فيه جميع بني ادم،
فالإنسان، لو تأملت في سيرته من حين حمله، إلى وضعه، إلى رضاعه، فترعرعه، وتعرضه في حياته للمرض، والهم، والغم، والشقاء، وأنواع البلايا، إلى حين وفاته، وتجرعه سكرات الموت، في كبد متصل.
تأمل حمل الإنسان، من حين أن يلقى نطفة في رحم أمه، وهو يتقلب من حال إلى حال، ثم إذا اكتمل خلقه، وتهيأ للخروج، خرج من تلك المسالك الضيقة الحرجة، بحال تكون الأم فيها بين الحياة والموت، فيخرج إلى هذه الدنيا، وأول ما يصدر منه أن يصرخ، كما أخبر النبي - صلى الله عليه وسلم - (مَا مِنْ مَوْلُودٍ يُولَدُ إِلاَّ وَالشَّيْطَانُ يَمَسُّهُ حِينَ يُولَدُ فَيَسْتَهِلُّ صَارِخًا مِنْ مَسِّ الشَّيْطَانِ إِيَّاهُ إِلاَّ مَرْيَمَ وَابْنَهَا) متفق عليه، وفي رواية مسلم: (من نخسة الشيطان)، ثم يكابد بعد ذلك الإطعام، والرضاعة، ويطرأ عليه من أنواع التوعكات، والأمراض ما الله به عليم، إلى أن يشتد عوده، ثم بعد أن يشب يلحقه ما يلحق هذا المخلوق الضعيف من الألم، والمرض، والضعف، والهم النفسين وجميع أنواع المزعجات في هذه الدنيا، ثم بعد ذلك يلحقه الكبر، والهرم، والضعف، وما أدراك ما يلحق الكبير في آخر عمره من المشقة؛ في مشيته، وفي هضمه، وفي مزاجه. هكذا الدنيا كبد في كبد. ثم إذا وضع على فراش الموت، اعتصرته السكرات، والشدائد، والكرب، حتى يسلم الروح إلى بارئها. كل ذلك كبد يستوي فيه بنو آدم؛ المؤمن، والكافر، البر، والفاجر, فإنا ما وعدنا بنعيم في هذه الدنيا، وهذا من حكمة الله البالغة. ولأجل ذلك كان في نفس كل مؤمن شوق دفين إلى الجنة، إلى المنازل الأولى، لأنها هي الدار التي ينعم ساكنها، فلا يبأس ولا يحزن، ولا يقلق، ولا يجوع، ولا يضحى، ولا يعطش، ولا يلحقه كبد. هذا الشوق الدفين حكمة بالغة، لما أن أخرجنا الشيطان من الجنة، بوسوسته، وكيده، بقي هذا التوق إلى الرجوع إليها عميقًا في النفس، وفي الفطرة. وقد انشد بن القيم - رحمه الله - في هذا أبياتاً جميلة، تصور هذا المعنى، فقال:
*فحي على جنات عدن فإنها منازلك الأولى وفيها المخيم
ولكننا سبي العدو فهل ترى نرد إلى أوطاننا ونسلم
فقد سبانا عدونا الشيطان، وأخرجنا من الجنة بوسوسته وإغرائه لأبوينا. فنحن كالأسير، في سجن، في بقعة من بقاع الأرض، يعتلج في قلبه من الشوق إلى موطنه، ومنازله الأولى، شيء مالا يوصف. فنحن كذلك! نحن أسرى، مرتهنون في هذه الدنيا، نشعر بالشوق إلى دارنا الأولى.
وقد زعموا أن الغريب إذا نأى وشطت به أوطانه فهو مغرم
وأي اغتراب فوق غربتنا التي لها أضحت الأعداء فينا تحكم*
¥