كأننا في غربة، فهذه الدنيا، جعلها الله، عز وجل، بحكمته البالغة، على هذا النسق وعلى هذه الوضعية؛ الواحد لا يكاد يفرح، حتى يبتئس، ولا يكاد يصح، حتى يمرض، ولا يكاد يهنأ، حتى يشقى، يتقلب في الأحوال، كما في قول الله تعالى (لتركبن طبقا عن طبق) جعلها الله تعالى ذلك، حتى لا نستنيم، ونسترسل، وننسى عبادة ربنا، عز وجل، بل نحس بالحاجة الماسة إلى العود إلى الحياة الهانئة، إلى الحياة المستقرة، إلى الحياة المطمئنة، إلى الحياة الحقيقية: (وَإِنَّ الدَّارَ الآَخِرَةَ لَهِيَ الْحَيَوَانُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ)

- التوجيه الثاني: أن يقال إن الإنسان هنا المراد به: الكافر المنكر للبعث، ويؤيد هذا المعنى أنه هو الذي يعيش الكبد الحقيقي، فإن الله تعالى قال: (وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى)، فالكافر يجد من العناء، والعنت، والمشقة، أضعاف ما يجده المؤمن في هذه الدنيا، وإن بدا خلاف ذلك، وإن بدا يرفل بالأثواب الفاخرة، ويركب المراكب الفارهة، ويسكن القصور العامرة، لكن في قلبه فاقة، ونكد، وشقاء، وضنك، كما قال الله، عز وجل: (فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكًا).

وقبل أن نغادر هذه اللفظ (كبد)، نشير إلى أقوال أخرى ذكرت في ذلك:

- قيل إن من معاني (كبد) أي: منتصبًا، معتدل القامة. وهذا يتناسب مع ما سيذكر بعد ذلك (أَلَمْ نَجْعَلْ لَهُ عَيْنَيْنِ. وَلِسَانًا وَشَفَتَيْنِ) لكن المعنى الأول مقدم.

- وقيل معنى ثالث، لكنه مغرب، وهو: أن المراد بـ (الكبد) السماء، كما يقال: في كبد السماء، وأن آدم خلق في السماء، فيكون المراد بالإنسان آدم.

(أَيَحْسَبُ أَنْ لَنْ يَقْدِرَ عَلَيْهِ أَحَدٌ) استفهام إنكاري، يعني: أيظن ذلك الإنسان أن لن يقهره، ويغلبه أحد، وهذا يؤيد أن المراد بالإنسان: الكافر. ويقال إن هذه الآية نزلت في رجل من قريش، شديد، منيع، عزيز، قوي البنية، قوي الخلقة، شديد البطش، يقال له *أبو الأشد ابن كلدة* كان يفتخر بقوته، ويضع تحت رجليه الأديم، ثم يتحدى القوم، يتحدى العشرة أن يزحزحوه من تحت رجليه، فيجذبونه، فيتقطع بين أيدهم، ولما يتحرك من موضعه لشدته.

ولا شك أن الأخذ بالعموم مقدم، ولا يمنع أن يكون هذا من صورها، وأن ذلك الكافر الذي زعم أن لن يقدر عليه أحد، يدخل في معناها.

(يقول) أي: ذلك الإنسان الكافر.

(أَهْلَكْتُ مَالًا لُبَدًا) أي: أفنيت وأنفقت، وهو كناية عن كثرة الإنفاق، وعدم المبالاة. لأن هذه اللفظة (أَهْلَكْتُ) تدل على المجازفة، وعدم المبالاة، وكثرة المنفق. وهذا من بلاغة القرآن؛ كل كلمة في موضعها، لا تقوم أخرى مقامها تمامًا، بل يحتاج لتوضيح الكلمة الواحدة إلى عدة مفردات.

(لُبَدًا) يعني: مالا كثيرا، قد تراكم بعضه فوق بعض لكثرته، فهذا الكافر يتفاخر بأنه ينفق الأموال يمنة ويسرة، ولا يبالي بالنفقة، ويفخر بهذا الصنيع.

(أَيَحْسَبُ أَنْ لَمْ يَرَهُ أَحَدٌ) أي أيظن ذلك الكافر أن الله لم يطلع عليه، وهو يفرق هذه الأموال، وينفقها للصد عن سبيل الله؟ ولا شك أن في مثل هذا التعبير تهديد بليغ.

يحسب الكافر أنه بمنأى عن الله كما ذكر الله، عز وجل: (أَمْ يَحْسَبُونَ أَنَّا لَا نَسْمَعُ سِرَّهُمْ وَنَجْوَاهُمْ بَلَى وَرُسُلُنَا لَدَيْهِمْ يَكْتُبُونَ) (لَقَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِيَاءُ). إن غياب هذا المعنى عن الكفار هو الذي أوردهم المهالك. قال تعالى: (وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيرًا مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ لَهُمْ قُلُوبٌ لَا يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لَا يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آَذَانٌ لَا يَسْمَعُونَ بِهَا أُولَئِكَ كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُولَئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ). هذه الغفلة المطبقة عن الله، عز وجل، وعن الشعور برقابته، هي التي أوردتهم المهالك. وهكذا، حينما يطيف بقلب المسلمن نوع غفلة، فيسرف في المعاصي والذنوب، وإن كانت غفلة نسبية، لكن بقدر ما يقع في القلب من الغفلة، تزل بك القدم، وتقع فريسة الذنوب، وفريسة هواجس الشيطانز وحينما يستنير قلبك بمصباح الذكرى، والعلم بالله، فإن هذا النور الإلهي يحرق جميع الشهوات، وجميع الشبهات. ويستنير

¥

طور بواسطة نورين ميديا © 2015