جهة من الجهات، فإنك أول ما ترى منها عاليها, ترى، مثلاً، رؤوس المآذن, أو رؤوس الجبال, فكلما اقتربت نزل البصر إلى ما دون ذلك.
?فَذَكِّرْ إِنَّمَا أَنْتَ مُذَكِّرٌ?: التذكير: الدلالة على الحق، المصحوب بالموعظة التي تحرك القلوب، ?إنما? أداة حصر يعني: أن مهمتك، ووظيفتك هي البلاغ، والذكرى.
?لَسْتَ عَلَيْهِمْ ?: يعني على المخاطبين من المشركين ? .. بِمُصَيْطِرٍ? يعني بمتسلط، وجبار. والقراءة المشهورة بالصاد، كما عند عاصم، ونافع، وابن كثير، وأبي عمرو, ولكن ثم قراءة بالسينن عند ابن عامر، والكسائي، في رواية. وهما لفظان متطابقان في الدلالة على معنى التسلط، والتجبر, وذلك أن النبي r لا يملك أن يدخل الإيمان، والذكرى في قلوبهم قسراً. وقد قال بعض المفسرين إن هذه الآية منسوخة بآية السيف (الطبري, القرطبي, البغوي) , والصحيح في آيات الجهاد أنها ليست من قبيل المنسوخ, وإنما تنزل كل آية على الحال الذي يناسبها, فلا يقال إن آية السيف نسخت جميع الآيات, نعم نسختها في الوقت الذي نزلت فيه، لكن إذا تجدد حال من الضعف لأهل الإسلام، ولم يتمكنوا من رفع علم الجهاد، فإنهم يطبقون ما يناسب الحال. مثال ذلك: قال الله تعالى: ?قَاتِلُوا الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلَا بِالْيَوْمِ الْآَخِرِ وَلَا يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَلَا يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ? (التوبة-29) فهذا غير متأتٍ الآن، وغير ممكن, وذلك بسبب ما آل إليه حال الأمة من الضعف, فلهذا ربما يتنزل على الحال الأمر بالكف, فإن الله تعالى قد قال للمؤمنين في حال الضعف: ?أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ قِيلَ لَهُمْ كُفُّوا أَيْدِيَكُمْ وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآَتُوا الزَّكَاةَ? (النساء-77) فينبغي أن تطبق الآيات المتعلقة بالجهاد بحسب الحال لا يتعسف في تطبيقها على غير ما يناسبها. فقوله Ü: ?لَسْتَ عَلَيْهِمْ بِمُسَيْطِرٍ? هذا آية محكمة، وذلك أن النبي r لا يملك إدخال الإيمان، والذكرى، في قلوبهم قسرًا وإكراهًا. قال تعالى: ?إِنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ? [القصص: 56]
?إِلَّا مَنْ تَوَلَّى وَكَفَرَ?: أي لكن من تولى وكفر, ومعنى? .. وَكَفَرَ? أي أعرض، وصد.
?فَيُعَذِّبُهُ اللَّهُ الْعَذَابَ الْأَكْبَرَ?: هذا وعيد من الله عز وجل للكافر المتولي، بأشد العذاب, لقوله: ? .. الْأَكْبَرَ? وهو عذاب النار.
?إِنَّ إِلَيْنَا إِيَابَهُمْ?: أي مرجعهم جميعاً.
?ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا حِسَابَهُمْ?: أي جزاءهم.
فيا لها من سورة عظيمة، وموعظة بليغة لمن تدبرها!.
الفوائد المستنبطة
1 - : شدة أهوال يوم القيامة، وذلك أنه سماها (الْغَاشِيَةِ).
2 - : سوء عاقبة الكافرين، وشدة عذابهم في النار، حساً، ومعنىً.
3 - : حسن عاقبة المؤمنين، وكمال نعيمهم في الجنة حساً، ومعنى.
4 - : أن اتفاق الأسماء لا يلزم منه اتفاق المسميات, إذ أن الله تعالى قال: ?عَيْنٍ آَنِيَةٍ?, ?ضَرِيعٍ?, ?سُرُرٌ مَرْفُوعَةٌ?, ?َأَكْوَابٌ مَوْضُوعَةٌ?, ?َنَمَارِقُ مَصْفُوفَةٌ?, ?وَزَرَابِيُّ مَبْثُوثَةٌ?, وهذه الأسماء معلومة في الدنيا, لكن الأمر كما قال ابن عباس ^ ليس في الجنة مما في الدنيا إلا الأسماء, ونقول أيضاً ليس في النار مما في الدنيا إلا الأسماء, فالأسماء واحدة والحقائق أو المسميات متفاوتة.
5 - : إثبات المعنى العام، المشترك في الأذهان، ليُفهم الخطاب؛ فلفظ ?عَيْنٍ آَنِيَةٍ? التي في النار، فيه معنى الحرارة المتناهية، وهذا أمر مدرك في الذهن, وإن لم تكن تلك العين الآنية في النارن كعين حارة في الدنيا, ?لَيْسَ لَهُمْ طَعَامٌ إِلَّا مِنْ ضَرِيعٍ? ذلك الضريع الذي في النار، قطعاً ليس كالضريع الذي تعافه البهائم، والحيوانات في الدنيا, لكن فيه معنىً مشترك، وهو كونه شوكا، ولذلك تعافه البهائم، ففيه معنى الأذى، والمعاناة في تناوله. كذلك عند الحديث عن الجنة، تذكر?السرر المرفوعة?, ?الأكواب الموضوعة?, ?النمارق?, ?الزرابي? فإن كل لفظ من هذه الألفاظ له معنىً في الذهن, فلا يمكن أن يكون المعنى الذي يعطيه ?َنَمَارِقُ مَصْفُوفَةٌ? كالمعنى التي تعطيه ?زَرَابِيُّ
¥