?فَمَا لَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ? هذا استفهام إنكاري يتضمن التعجيب من حالهم، وكفرهم بالبعث, فكيف لا يؤمنون به، وهم يرون أن الله Ü، قد نقلهم من طبق إلى طبق، ومن حال إلى حال, فالذي خلقهم من العدم، وأخرجهم من بطون أمهاتهم، وتقلبوا في أحوال الدنيا طبقًا عن طبق, قادر على أن يبعثهم. فلهذا جاء التعجيب في مكانه.
? وَإِذَا قُرِئَ عَلَيْهِمُ الْقُرْآَنُ لَا يَسْجُدُونَ? القرآن كلام الله، الذي تكلم به حقيقة، بكلام حقيقي، لا يشبه كلام المخلوقين, ليس هو المعنى دون الصوت، ولا الصوت دون المعنى، بل هو كلام حقيقي من حرف وصوت, لا يكون كلامًا إلا بذلك. لكنه كلام عظيم، شريف، حتى إذا تكلم سبحانه أخذت السماواتِ من كلامه Ü رجفةٌ، وصعق الملائكة ?حَتَّى إِذَا فُزِّعَ عَنْ قُلُوبِهِمْ قَالُوا مَاذَا قَالَ رَبُّكُمْ قَالُوا الْحَقَّ وَهُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ?سبأ (23) فينزل به جبريل عليه السلام، إلى قلب محمد ?, ويعتري رسولَ الله ? من الجهد، الشيءُ العظيم, حتى إنه ليتفصد عرقًا في اليوم شديد البرد, وحتى إنه يثقل بدنه، حتى بركت به ناقته ذات مرة, وكانت فخذه مرة، على فخذ زيد بن ثابت فكادت أن ترض. كل ذلك من شدة الوحي وثِقَله, كما قال تعالى: ?إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلًا ثَقِيلًا?المزمل (5) وهم يبصرون ذلك، ويشتد أثره على النبي ?, حتى إنه كان يسمع له صلصلة كصلصلة الجرس، حينما ينزل عليه الوحي, ولولا أن الله Ï قواه، ما استطاع أن يتلقى هذا الكلام الثقيل العظيم. وهذه أحد مواضع سجود التلاوة المتفق عليها.
?بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا يُكَذِّبُونَ? الذي يمنعهم من تعظيم القرآن، والسجود للمتكلم به، سبحانه، هو التكذيب, فكونهم يكذبون بالبعث، ويكذبون بالقرآن، ولا يرونه من عند الله Ü, لا يحصل لهم هذا التعظيم، والإجلال، والخشوع، الذي يحصل لعباد الله المؤمنين، من جنس قول الله:Ü ?إِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ مِنْ قَبْلِهِ إِذَا يُتْلَى عَلَيْهِمْ يَخِرُّونَ لِلْأَذْقَانِ سُجَّدًا * وَيَقُولُونَ سُبْحَانَ رَبِّنَا إِنْ كَانَ وَعْدُ رَبِّنَا لَمَفْعُولًا * وَيَخِرُّونَ لِلْأَذْقَانِ يَبْكُونَ وَيَزِيدُهُمْ خُشُوعًا?الإسراء (107 - 109) هذان مثالان على اختلاف الاستقبال بين الناس؛ قوم لا يرفعون به رأسًا، ولا يسجدون له إذا أُمروا, وقوم إذا سمعوه خروا سجداً, وعلموا أن هذا القول قول كريم، ليس كسائر كلام الناس, وتجيش قلوبهم وتستجيب جوارحهم ? .. يَخِرُّونَ لِلْأَذْقَانِ سُجَّدًا * وَيَقُولُونَ سُبْحَانَ رَبِّنَا .. ? -تنزيها له- ? .. إِنْ كَانَ وَعْدُ رَبِّنَا لَمَفْعُولًا * وَيَخِرُّونَ لِلْأَذْقَانِ يَبْكُونَ وَيَزِيدُهُمْ خُشُوعًا? فهذا الخشوع نابع من العلم بالله Ü.
?وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا يُوعُونَ? بما يوعون: أي بما يشتركون، ويجمعون من الأعمال، لأن الوعي بمعنى الجمع.
? فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ? الأصل في البِشارة أن تكون للأمور السارة، والنِذارة للأمور الضارة, لكن البِشارة يعبر بها أحيانًا عن الأمور المخوفة, وذلك لأن الأثر يظهر على البَشرة, فسميت البشارة لذلك؛ فإذا سر الإنسان تهلل وجهه، وإذا خاف اصفر وجهه, فالبَشرة مرآة القلب, ويكون التعبير هنا من باب النِكاية بهم ?فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ? فجعل البِشارة في موضع النِذارة، تبكيتًا لهم، وليكون أبلغ في وقعه عليهم.
?إِلَّا الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ? استثنى الله تعالى استثناءً منقطعًا، لأنهم أصلاً غير داخلين في ذلك الوعيد, فـ (إلا) هنا بمعنى بل.
?لَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ? أي غير مقطوع، ولا ممتن به عليهم, لهذا قال الله:Ü ?يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تُبْطِلُوا صَدَقَاتِكُمْ بِالْمَنِّ وَالْأَذَى ?البقرة (264) فمن كرامة الله Ü لعباده المؤمنين، أنه يجعل رزقهم غير ممنون.
الفوائد المستنبطة من السورة:
أولا: فيها شدة أهوال يوم القيامة.
ثانيا: بيان ربوبية الله Ü. فالله تعالى رب السماوات، والأرَضين، وما، ومن فيهما؛ من مؤمن، وكافر، وبر، وفاجر، وكل ساكن، ومتحرك، ورطب، ويابس, هو خالقُه، ومليكُه، ومدبره، فهذه الربوبية العامة. وأما ربوبية الله لعباده المؤمنين، فإنها ربوبية خاصة، فيها معنى اللطف، والتيسير، والحفظ، ونحو ذلك.
ثالثا: إثبات البعث.
رابعًا: بيان حال الإنسان في الدنيا، وهو الكدح، والكبَد. فلا ينتظر الإنسان في هذه الدنيا نعيمًا.
خامساً: إثبات الحساب وتنوعه.
سادساً: كمال عدل الله ورحمته, فالله Ü حكم عدل، مقسط، لا يظلم مثقال ذرة.
سابعًا: شؤم عاقبة المنكرين للبعث.
ثامناً: إقسام الله Ü بما شاء من مخلوقاته, وليس للمخلوق إلا أن يقسم بالله Ü.
تاسعاً: تنوع أحوال الناس في الدنيا، والآخرة.
عاشرًا: التعجيب من حال المنكِرين للبعث.
أحد عشر: عظمة القرآن، ووجوب الإيمان به, وأنه كلام الله حقا.
ثاني عشر: سبق علم الله Ü وقدره.
ثالث عشر: حسن عاقبة المؤمنين.
رابع عشر: أن العمل من لازم الإيمان ومقتضاه فالله Ü لا يكاد يذكر الإيمان إلا ويقرنه بالعمل. فمن ادعى إيمانًا بقلبه، ولم يصدقه بعمله، فدعواه كاذبة. إن كان الإيمان حقًا في القلب، فلابد أن يظهر على الجوارح. ولهذا نجد أن بعض الفساق المسرفين على أنفسهم, إذا نُصحوا، ووُعظوا، قال قائلهم: التقوى هاهنا. التقوى هاهنا, يتمثل قول النبي ? (رواه مسلم 4650). فيقال له: لو كانت التقوى في القلب، لظهرت على الجوارح, من اتقى الله تعالى حقًا وصدقًا، عصم لسانه، وجوارحه، عن الوقوع فيما حرم الله Ü, والله أعلم.
¥