?يَا أَيُّهَا الْإِنْسَانُ إِنَّكَ كَادِحٌ إِلَى رَبِّكَ كَدْحًا فَمُلَاقِيهِ?: الكدح: هو العمل الذي فيه مشقة واتصال, فأنت أيها الإنسان في هذه الحياة تكدح كدحًا شاقًا متواصلاً يوشك أن تلاقيه, و للمفسرين قولان في مرجع الضمير في قوله ?فَمُلَاقِيهِ?: منهم من قال أن مرجع الضمير إلى العمل أي: فملاقى ذلك العمل، الذي كدحت فيه, ويشهد له قول الله تعالى: ?يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُحْضَرًا وَمَا عَمِلَتْ مِنْ سُوءٍ .. ?آل عمران (30). ومنهم من قال: إن مرجع الضمير إلى الله Ï. وهذا الثاني أرجح. وبين المعنيين تلازم؛ فإن هذا العمل يُكدح به إلى الله Ü، فيخلو الله تعالى بعبده، ويوقفه على عمله، فيحصل اللقاء. وقد ذكر الشيخ الإسلام ابن تيمية، رحمه الله، أن الملاقاة فيها معنى السير إلى الملك، فلا تكون ملاقاة إلا بسير وقصد.

فليعلم الإنسان أن الكدح لابد منه, وان الدنيا ليست بدار نعيم، فإن كنت لابد كادحًا، فاجعل كدحك فيما تحمد عاقبته في الآخرة. وهاهم الكفار على اختلاف مللهم, يلحقهم من الشقاء، والنكد، والكبد، مثل ما يلحقنا أيضا, وأشد، لكن فرقُ ما بين المؤمن والكافر، أن المؤمن يرجو ما عند الله ويحتسب، ويعمل عملا صالحا.

ثم إنه Ï بين أحوال الناس فقال: ?فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ * فَسَوْفَ يُحَاسَبُ حِسَابًا يَسِيرًا * وَيَنْقَلِبُ إِلَى أَهْلِهِ مَسْرُورًا? ابتدأ بالصنف الأسعد، والأحظ، وهو من يؤتى كتابه بيمينه، من أهل اليمين, وذلك أن الكتب يوم القيامة تبرز, فآخذ كتابَه بيمينه، وآخذ كتابَه بشماله، من وراء ظهره. وقد ذكر الله تعالى هذا أيضًا في سورة (الحاقة) في قوله: ?وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِشِمَالِهِ فَيَقُولُ يَا لَيْتَنِي لَمْ أُوتَ كِتَابِيَهْ? الحاقة (25).

?فَسَوْفَ يُحَاسَبُ حِسَابًا يَسِيرًا? هذا الحساب اليسير، المراد به العرض, وهو الذي دل عليه حديث ابن عمر÷ مرفوعًا، كما في صحيح مسلم «يُدْنَى الْمُؤْمِنُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مِنْ رَبِّهِ عَزَّ وَجَلَّ، حَتَّى يَضَعَ عَلَيْهِ كَنَفَهُ، فَيُقَرِّرُهُ بِذُنُوبِهِ، فَيَقُولُ: هَل تَعْرِفُ؟ فَيَقُولُ: أَىْ رَبِّ أَعْرِفُ, قَالَ: فَإِنِّى قَدْ سَتَرْتُهَا عَلَيْكَ فِى الدُّنْيَا، وَإِنِّى أَغْفِرُهَا لَكَ الْيَوْمَ. فَيُعْطَى صَحِيفَةَ حَسَنَاتِهِ. وَأَمَّا الْكُفَّارُ، وَالْمُنَافِقُونَ، فَيُنَادَى بِهِمْ عَلَى رُءُوسِ الْخَلاَئِقِ: هَؤُلاَءِ الَّذِينَ كَذَبُوا عَلَى اللَّهِ» (متفق عليه). وأما المناقشة فأشد منه, ويبين الفرق بين الأمرين أن عائشة، رضي الله عنها، سمعت النبي ? يقول «مَنْ حُوسِبَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عُذِّبَ». فَقُلْتُ: أَلَيْسَ قَدْ قَالَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ: ?فَسَوْفَ يُحَاسَبُ حِسَابًا يَسِيرًا?؟ فَقَالَ: «لَيْسَ ذَاكِ الْحِسَابُ، إِنَّمَا ذَاكِ الْعَرْضُ. مَنْ نُوقِشَ الْحِسَابَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عُذِّبَ» (متفق عليه).

وذلك أن الموحدين على صنفين؛ منهم من سبقت لهم من الله الحسنى، وشاء الله تعالى، أن يغفر ذنوبه, فهذا يعامل بالعرض. ومنهم من عصاة الموحدين، من يدقق معه، ويحقق، وسبق في مشيئة الله Ü أن يُعذَّب بقدر ذنبه، ومآله إلى الجنة, فهذا الذي يعامل بالمناقشة. فمن نوقش عُذِّب، لأنه ما دقق معه في الحساب، إلا لتقوم عليه الحجة التامة, لكن مآله إلى الجنة.

?وَيَنْقَلِبُ إِلَى أَهْلِهِ مَسْرُورًا? ينقلب بمعنى يرجع, وأما أهله، فقد ذكر الطبري في تفسيره، أنه ينقلبُ إلى أهله من الحور العينِ، وأقربائه من المؤمنين، بحالة من السرور والحبور. وحق له أن يُسَر، وقد نجا، وزحزح عن النار، وأدخل الجنة. هذه هي السعادة الحقيقة التي ما بعدها سعادة. ثم قال في القسم الثاني من التفريع:

?وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ وَرَاءَ ظَهْرِهِ? عياذا بالله, وقال Ü في سورة (الحاقة) ? .. بِشِمَالِهِ .. ? (الآية 25) ولا تعارض بين الصورتين, ذلك أن الكافر والعياذ بالله تُغل يمناه إلى عنقه، وتلوى يده اليسرى من وراء ظهره، ويؤتى كتابه بشماله. وفي هذا من البشاعة، والشناعة، ما لا يخفى. وفيه ازدراء له واحتقار.

¥

طور بواسطة نورين ميديا © 2015