وَيَتَجَنَّبُهَا الْأَشْقَى يعني الذي بلغ في الشقاء غايته. والمراد به الكافر؛ لأنه أتى بصيغة أفعل التفضيل. ولهذا كان الكفار ينفرون من الموعظة، كما وصف الله عز وجل: وَهُمْ يَنْهَوْنَ عَنْهُ وَيَنْأَوْنَ عَنْهُ وَإِنْ يُهْلِكُونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ وَمَا يَشْعُرُونَ, وكذلك قال الله تعالى عن قوم نوح: وَإِنِّي كُلَّمَا دَعَوْتُهُمْ لِتَغْفِرَ لَهُمْ جَعَلُوا أَصَابِعَهُمْ فِي آَذَانِهِمْ وَاسْتَغْشَوْا ثِيَابَهُمْ وَأَصَرُّوا وَاسْتَكْبَرُوا اسْتِكْبَارًا. وكل من كان عنده نسبة شقوة، نفر من الموعظة بقدر ما عنده من الشقاء, فالعاصي، إذا وعظ أحياناً، أو ذكر، نفر، وقال: لا تكثروا علي الكلام.
* قوله تعالىالَّذِي يَصْلَى النَّارَ الْكُبْرَى:-
أي: أنه يدخل هذه النار، فتحرقه بشوبها، ولهبها. ووصف النار بأنها الكبرى لشدة عذابها ونكالها.
* قوله تعالىثُمَّ لَا يَمُوتُ فِيهَا وَلَا يَحْيَا:-
يعني: لا يموت فيستريح من هذا العذاب، ولا يحيى حياة هنيئة. فبئست المعيشة.
* قوله تعالىقَدْ أَفْلَحَ مَنْ تَزَكَّى:-
قَدْ: للتحقيق.
أَفْلَحَ: فاز. ومعنى الفلاح: الفوز بالمطلوب، والنجاة من المرهوب.
مَنْ: بمعنى الذي.
تَزَكَّى: أي تطهر بالإيمان، والعمل الصالح, كما قال في الآية الأخرى: قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا. فمعنى الزكاة التطهر.
وقال بعض المفسرين: قَدْ أَفْلَحَ مَنْ تَزَكَّى يعني: أدى زكاة ماله, وقال بعضهم أي أدى زكاة الفطر خاصة. والصحيح أن التفسيرين الأخيرين داخلان في التفسير العام, والأولى أن نحملها على العموم، فمن فسرها بأنها زكاة المال، أو زكاة الفطر، فإنما أراد تفسير الشيء ببعض أنواعه.
* قوله تعالىوَذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ فَصَلَّى:-
هذا كما تقدم في مطلع هذه السورة، ينبغي أن يجمع بين ذكر القلب، وذكر اللسان. لم يقل "وذكر ربه فصلى" بل قال: وَذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ، ففيه تنبيه على الجمع بين ذكر القلب، وذكر اللسان.
فَصَلَّى أي: الصلاة المشروعة، وأعظمها الصلوات الخمس.
* قوله تعالىبَلْ تُؤْثِرُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا:-
بَلْ: للإضراب، أي الحال أنكم بتُؤْثِرُونَ: أي تفضلون، وتقدمونالْحَيَاةَ الدُّنْيَا. وهو خطاب موجه للكافرين، منكري البعث.
* قوله تعالىوَالْآَخِرَةُ خَيْرٌ وَأَبْقَى:-
كما قال في آية أخرى: فَمَا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فِي الْآَخِرَةِ إِلَّا قَلِيلٌ. فما أعظم خسارة من باع آخرته بدنياه
وَالْآَخِرَةُ خَيْرٌ وَأَبْقَى: فهي خير من حيث المتاع؛
- ففيها صنوف النعيم، واللذائذ الحسية، والمعنوية، ما لا تقارن به لذات الدنيا. كما قال نبينا صلى الله عليه وسلم: (مَوْضِعُ سَوْطِ أَحَدِكُمْ مِنَ الْجَنَّةِ خَيْرٌ مِنَ الدُّنْيَا وَمَا عَلَيْهَا) [رواه البخاري].
- والميزة الثانية: البقاء، لأن متاع الدنيا منقطع، مهما طال, مهما عمر هذا المتنعم، فمآله إلى الموت, لو سكن القصور, وحصل له جميع ما يتمناه من شتى الأمور، فمآله بعد ذلك إلى أن تنهد قواه, وأن يشيب صدغاه, وأن يؤول إلى الهرم, ويفقد اللذة ويموت. لكن الآخرة لا يبلى شبابها, ولا يفنى أهلوها. فلهذا كانت أبقى نعيم: وَأَمَّا الَّذِينَ سُعِدُوا فَفِي الْجَنَّةِ خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ إِلَّا مَا شَاءَ رَبُّكَ عَطَاءً غَيْرَ مَجْذُوذٍ [هود: 108]
* قوله تعالىإِنَّ هَذَا لَفِي الصُّحُفِ الْأُولَى:-
إِنَّ: للتوكيد, جزء (عم) مليء بالعبارات التحقيقية، التأكيدية التي تعمر القلب باليقين الراسخ.
هَذَاالمشار إليه ما تقدم من الموعظة.
لَفِي الصُّحُفِ الْأُولَىيعني: أنه مزبور، مذكور في الصحف الأولى. ووصفت بالأولية لكونها منزلة قبل القرآن.
* قوله تعالىصُحُفِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى:-
إِبْرَاهِيمَ: -عليه السلام- هو أبو الأنبياء، وإمام الموحدين في الأولين، وهو خليل الرحمن، له صحف، كما أخبر الله عز وجل. قيل أنها عشر صحائف.
وَمُوسَى: كليم الرحمن، وأعظم أنبياء بني إسرائيل. قيل أن الصحائف هي نفسها التوراة, وقيل إنها غير ذلك، وأنه ما ذكر فيها الوصايا العشر, خاصة. والأقرب أن تكون التوراة لأن هي من أعظم ما أنزل الله تعالى على موسى، فهي أولى بالذكر.
الفوائد المستنبطة
¥