*قوله: فَجَعَلَهُ غُثَاءً أَحْوَى: -
هذه دورة أخرى. فَجَعَلَهُ أي الله -عز وجل- غُثَاءً أي جافاً، هشيما, ً وأَحْوَى أي يابساً، مائلاً إلى السواد. وذلك بعد أن يمر به ما شاء الله تعالى من الوقت، وتشتد عليه حرارة الشمس.
*قوله: سَنُقْرِئُكَ فَلَا تَنْسَى:-
يقول الله -عز وجل - مخاطباً نبيه: سَنُقْرِئُكَ أي القرآن، فَلَا تَنْسَى:"لا" نافية، فمعنى الآية، أن الله تعالى يعد نبيه أن يقرأه القرآن، وأن يحفظه في قلبه، لا ينساه. وذلك أن نبينا كان إذا نزل عليه الوحي يحرك به لسانه، يتحفظه، يخشى أن يتفلت عليه، كما قال في سورة القيامة: لَا تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْآَنَهُ. فطمأن الله نبيه قائلاً: سَنُقْرِئُكَ فَلَا تَنْسَى أي لن تنسى ما أوحي إليك.
*قوله: إِلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ إِنَّهُ يَعْلَمُ الْجَهْرَ وَمَا يَخْفَى:-
إِلَّا تفيد الاستثناء، وذلك للدلالة على طلاقة المشيئة. فكل شيء متعلق بمشيئته، وحكمته. والمعنى: إلا ما شاء الله أن تنساه، مثل المنسوخ. فما نسخت تلاوته، وحكمه، يدخل في هذا الاستثناء. وذلك أن الله -سبحانه وتعالى- قد ينسخ بعض ما أنزل على نبيه لحكمة بالغة، كما قال تعالى: مَا نَنْسَخْ مِنْ آَيَةٍ أَوْ نُنْسِهَا نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْهَا أَوْ مِثْلِهَا.
إِنَّهُ أي الله -عز وجل-. يَعْلَمُ الْجَهْرَ الجهر: ما يظهر الإنسان من قول، أو من عمل. وَمَا يَخْفَى: أي منهما. فعلمه محيط بكل شيء.
*قوله: وَنُيَسِّرُكَ لِلْيُسْرَى:-
وهذا من أسباب محبة النبي لهذه السورة. وَنُيَسِّرُكَ: يعني نسهل لك، ونهيأ لك. لِلْيُسْرَى: قيل: شريعة الإسلام، وقيل، وليس بعيداً عن القول الأول، أي عمل الصالحات الموصل إلى الجنة. وهذا مطابق لقول الله تعالى: فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى وَاتَّقَى وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَى فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرَى. فالله تعالى يبشر نبيه بتيسيره لليسرى، أي بتوفيقه لشريعة سمحة، سهلة، ميسرة، هي شريعة الإسلام. وهذا التيسير هو الموصل إلى الجنة، التي من أسمائها (اليسرى).
وهذا الوصف (اليسر) بيان لطبيعة هذا الدين, وهذه الشريعة, وهذا النبي. فهذا الدين في عقيدته مبني على اليسر، والوضوح، والبينة، ليس فيه أغلوطات، ولا تعقيد، ولا غموض, بل هو واضح، بيِّن، موافق للعقول السليمة، والفطر المستقيمة. ليس ككلام المتكلمين، والفلاسفة، والمناطقة. وهو يسر في شريعته، فإن هذه الشريعة حنيفية سمحة. ولهذا لما زَنَى رَجُلٌ مِنَ الْيَهُودِ، وَامْرَأَةٌ، َقَالَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ: اذْهَبُوا بِنَا إِلَى هَذَا النَّبِىِّ، فَإِنَّهُ نَبِىٌّ بُعِثَ بِالتَّخْفِيفِ. رواه أبو داود. فكانت شريعة نبينا محمد متسمة باليسر، ورفع الحرج, وكان من قواعد الشريعة أن الضرورات تبيح المحظورات, وأن الأمر إذا ضاق اتسع, وأن المشقة تجلب التيسير. ويعقد العلماء أبواباً لأهل الأعذار، كما في الحديث: (صَلِّ قَائِمًا، فَإِنْ لَمْ تَسْتَطِعْ فَقَاعِدًا، فَإِنْ لَمْ تَسْتَطِعْ فَعَلَى جَنْبٍ) [رواه البخاري]، وقال: (إِنَّ اللَّهَ تَجَاوَزَ عَنْ أُمَّتِي مَا حَدَّثَتْ بِهِ أَنْفُسَهَا مَا لَمْ تَعْمَلْ، أَوْ تَتَكَلَّمْ) [رواه البخاري]. كما أن هذا النبي الكريم، كان من صفاته اليسر، فهو سهل, موطأ الأكناف, مزاجه مزاج طبيعي، ليس فيه عنت، ولا مشقة، يأخذ الأمور بالعفو، والظاهر، واليسر، لا يتكلف، بل يبغض التكلف: قُلْ مَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُتَكَلِّفِين. وكان سمحاً مع أهل بيته، يصبر منهم على ما يقع من الغيرة، ويسايرهم، ويجاريهم، حتى ذكر جابر بن عبد الله -رضي الله عنه- في قصة حجة الوداع أن عائشة -رضي الله عنها- ألحت على النبي أن تأتي بعمرة، فقال: (طَوَافُكِ بِالْبَيْتِ وَبَيْنَ الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ يَكْفِيكِ لِحَجَّتِكِ وَعُمْرَتِكِ) [رواه أبو داود] فلما رأى شدة رغبتها، وإلحاحها وافقها, قال جابر بن عبد الله: وَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ رَجُلاً سَهْلاً، إِذَا هَوِيَتِ الشَّىْءَ تَابَعَهَا عَلَيْهِ. فَأَرْسَلَهَا مَعَ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِى بَكْرٍ فَأَهَلَّتْ بِعُمْرَةٍ مِنَ التَّنْعِيمِ. رواه مسلم. وكان سمحاً مع الناس، إذا صافح أحداً، لم
¥