2. هداية الدلالة، والبيان، والإرشاد: وهي أخص من الأولى، لأنها تتعلق بالمكلفين. والمراد بها: ما أظهر الله تعالى من شرعه، ودينه، لعباده. وهذا النوع من الهداية يقوم به الأنبياء, والعلماء, والدعاة، والمصلحون، لأنها هداية دلالة، و بيان، وإرشاد، ويدل عليها قول الله تعالى: وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيم و أَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْنَاهُمْ فَاسْتَحَبُّوا الْعَمَى عَلَى الْهُدَى.

3. هداية التوفيق والإلهام: وهذه أخص من التي قبلها، لأنها تختص بمن سبقت لهم من الله الحسنى. فليس كل من هدي هداية دلالة، وبيان، وإرشاد، يهدى قلبه. فالنبي خاطب الناس جميعاً، وبين لهم، ودلهم، وأرشدهم، فلم يهتدوا جميعاً، لأن هداية التوفيق، والإلهام، بيد الله -عز وجل-. وهذا هو معنى قوله تعالى: إِنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ.

4. الهداية إلى طريق الجنة، أو طريق النار: وهذا النوع ليس في الدنيا، ولكنه في الآخرة. قال الله -عز وجل- في حق المؤمنين: سَيَهْدِيهِمْ وَيُصْلِحُ بَالَهُمْ. قال بعض المفسرين: يعني يهديهم إلى طريق الجنة. وقال في حق الكافرين: احْشُرُوا الَّذِينَ ظَلَمُوا وَأَزْوَاجَهُمْ وَمَا كَانُوا يَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ فَاهْدُوهُمْ إِلَى صِرَاطِ الْجَحِيمِ.

والمراد بالآية النوع الأول، وهي الهداية العامة التي بها مصالح الحياة والمعاش. وهذا باب واسع لمن أرسل فيه طرفه، وأعمل فيه عقله، فإنه يجد من حكم الله، عز وجل، وتصريفه لمخلوقاته، الشيء العظيم. وقد أفاض فيه ابن القيم -رحمه الله- في (شفاء العليل)، وفي (مفتاح دار السعادة) وعقد فصولاً بديعة، مدهشة، في التفكر في بعض مخلوقات الله، وكيفية هدايتها؛ فعقد فصلاً يتعلق بالنمل، وكيف تحفظ أقواتها، والنحل وكيف تبني بيوتها، والحمام وكيف معاشها، والهدهد وكيف يعرف مواضع الماء، وسائر أصناف المخلوقات، بكلام ينعش القلب. هذا، وابن القيم -رحمه الله- لم يتح له أن يطلع على ما اطلع عليه المتأخرون من أنواع المعارف؛ فإن العلوم الحديثة، قد كشفت من معاني الربوبية، ما يحار الطرف في النظر إليه، ويحار العقل في التفكر فيه, حتى إنه لما ألف بعض الملحدين، منكري وجود الله، كتاباً سماه "الإنسان يقوم وحده" يعني أنه مستغن عن وجود خالق, ألف عالم غربي كتاباً في الرد عليه سماه "الإنسان لا يقوم وحده". وقد ترجم هذا الكتاب إلى العربية بعنوان "العلم يدعو إلى الإيمان"، أوصي بقراءته، وإن كان مؤلفه غير مسلم، لكنه ذكر حقائق من حقائق الربوبية، التي يشترك فيها كل من يؤمن بوجود الله -عز وجل- ويمكن أن يوظفها المؤمن الحق في التدليل على توحيد العبادة. ومثله ما يذكره بعض المشتغلين بمسائل الإعجاز العلمي في القرآن. على أن مسائل الإعجاز العلمي، ينبغي التعامل معها بحذر، لأن بعض المشتغلين بها يغالون أحياناً، ويحملون النصوص ما لا تحتمل, ربما كان بعض ما قالوه صواباً، لكن لا علاقة له بالآية، ولا يجوز أن نحمِّل كلام الله عز وجل معنىً ليس مراداً له، حتى وإن كان ذلك المعنى صحيحاً في نفسه، لكن لا يجوز أن نقول: إن مراد الله بالآية، كذا، وكذا، إلا ببينة ودليل. وإذا كان هذا من قبيل النظريات، والفرضيات، فإنه لا يجوز أن تحمل عليه النصوص، لأن النظريات والفرضيات، قد يثبت بطلانها. وأما إن كان هذا الذي توصلوا إليه من قبيل القطعيات، والحسيات، والمشاهدات، فإننا ننظر؛ إن كان لفظ الآية يحتمله فلا بأس، أن نسوقه في هذا المقام, وإن كان لفظ الآية لا يحتمله، بل هو أجنبي عنه، فإنه لا يجوز أن نفسر كلام الله بغير مراده. فلينتبه لهذا من يقرأ في مسائل الإعجاز العلمي.

*قوله: وَالَّذِي أَخْرَجَ الْمَرْعَى:-

الْمَرْعَى: موضع النبات، والخضرة. فالذي يخرج المرعى هو الله عز وجل. تمر بالأرض اليباب، القفر، يوماً، فلا ترى إلا الهواء يعصف بها, والغبار يثور منها, ثم يرسل الله -تعالى- عليها سحائب المطر، فتسقيها، فتمر بها وهي تهتز خضراء، ذات بهجة. من الذي أخرج المرعى؟ من الذي حفظ هذه البذور لسنة كاملة، وسقاها حتى عادت هذه الأرض الصفراء المغبرة، تهتز خضرة وجمالاً، وألواناً، وعبقاً، وأريجا؟ ً إنه الله (الَّذِي أَخْرَجَ الْمَرْعَى).

¥

طور بواسطة نورين ميديا © 2015