- والقول الثاني: أن المراد سبح ربك، ولكنه عبر بالاسم، أو أدخل ذكر الاسم، لتحصل بذلك فائدة الجمع بين تسبيح القلب، وتسبيح اللسان. فيكون معنى سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ ما نقله ابن القيم، رحمه الله، عن شيخ الإسلام: "سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ أي: سبح ربك بقلبك، ولسانك, واذكر ربك بقلبك، ولسانك. فأقحم الاسم تنبيهاً على هذا المعنى، حتى لا يخلو الذكر والتسبيح من اللفظ باللسان، إلى أن قال: (وعبر لي شيخنا، أبو العباس ابن تيمية - قدس الله روحه- بعبارة لطيفة، وجيزة، فقال: المعنى: سبح ناطقاً باسم ربك، متكلماً به، وكذا سبح ربك ذاكراً اسمه - ثم قال- وهذه الفائدة تساوي رحلة لكن لمن يعرف قدره) يقول: لو لم يتمكن الإنسان من الحصول على هذه الفائدة، إلا أن يشد الرحل على بعيره، وينطلق في طلبها من بلد إلى بلد، لما كان ذلك كثيراً, لكن من الذي يثمن هذا، ويقدره قدره؟ إنهم أهل العلم؛ لأن هذه المعاني معاني فخمة، جليلة, وتلاحظون في هذه السورة أنه قال في أولها: سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى، وقال في آخرها: وَذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ فَصَلَّى، فأمر في أولها بتسبيح اسم ربه، وذكر في آخرها عمن أفلح وتزكى، أنه ذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ فَصَلَّى. فذكر الاسم في الموضعين؛ في الموضع الأول بالتسبيح, وفي الموضع الثاني بالذكر، وذلك ليجمع الإنسان بين الوصفين: تنزيه ربه بقلبه، وذكره بلسانه. وهذا أعلى أنواع الذكر، وهو ما تواطأ فيه القلب واللسان, ثم في الدرجة الثانية: ما اختص به القلب دون اللسان, ثم في الدرجة الثالثة: ما كان باللسان دون القلب. فللذكر مراتب، ودرجات.
الْأَعْلَى اسم من أسماء الله الحسنى، وهو على صيغة أفعل التفضيل، يعني من له العلو المطلق. وله أسماء مقاربة مثل: (العلي) , و (المتعال). فالأعلى يدل على كمال علو الله عز وجل. وأهل السنة والجماعة يثبتون ثلاثة أنواع من العلو:
النوع الأول: علو الذات: وهو الاعتقاد بأن الله -سبحانه وتعالى- بذاته فوق سمواته, مستوٍ على عرشه, بائن من خلقه, ليس فيه شيء من خلقه ولا في خلقه شيء منه. وهذا النوع من العلو، يدل عليه الكتاب, والسنة, والإجماع, والعقل, والفطرة. ونازع فيه المعطلة، وأنكروا علو الله بذاته. وممن أنكر علو الله فوق سمواته: الجهمية، والمعتزلة, والأشاعرة، ومن على شاكلتهم، أنكروا أن يكون الله - عز وجل- فوق مخلوقاته! وهذا من أعجب العجب. فقد قامت دلائل الكتاب على إثباته، حتى قال بعض علماء الشافعية: "إن في القرآن العظيم أكثر من ألف دليل على إثبات علو الله". ودلت عليه دلائل السنة, وقطع العقل السليم باستحقاق الله لهذا العلو؛ لأنه صفة كمال, وفطر الله الفطر على ذلك؛ فما من إنسان إلا ويجد في قلبه نزوعاً إلى العلو حين يدعو الله تعالى، فيجد في قلبه ضرورة بالتوجه إلى العلو. وانعقد إجماع الأمة على هذا, وإنما نازع فيه هؤلاء المحجوبون، الذين جعلوا بينهم وبين بركة القرآن حجاباً مستوراً، من بدعة الكلام المذموم، والمقدمات الفاسدة.
النوع الثاني: علو القدر: وهو الاعتقاد بأن الله -سبحانه وتعالى- له صفات الكمال، التي بلغت الغاية في الحسن والقدر. وهذا لا ينازع فيه أحد من أهل القبلة. وهو معنى قوله تعالى: وَلِلَّهِ الْمَثَلُ الْأَعْلَى. وإنما وقع النزاع في تطبيقاته.
النوع الثالث: علو القهر: وهو الاعتقاد بأن الله -تعالى- علا على كل شيءٍ وقهره، كما قال تعالى: وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ. وهو محل اتفاق بين أهل القبلة.
* قوله الَّذِي خَلَقَ فَسَوَّى:-
يعني أوجد من العدم. ومعنى (سَوَّى): أي جعله متناسب الأجزاء، والأعضاء، قائماً بما يناسبه. ويشبه ذلك قوله تعالى: الَّذِي خَلَقَكَ فَسَوَّاكَ فَعَدَلَكَ.
* قوله
:وَالَّذِي قَدَّرَ فَهَدَى: -
أي أنه سبحانه، سبق تقديره للمخلوقات، وهداها. والمقصود بالهداية هنا الهداية العامة, وذلك أن الهداية أنواع. فقد ذكر ابن القيم-رحمه الله-في كتابه"شفاء العليل" أن مراتب الهداية أربع:
1. الهداية العامة: وهي هداية كل مخلوق إلى ما يناسبه، ويصلح حاله. وهي المقصودة في هذه الآية، وتشمل الأنس, والجن, والطير, والوحش، وجميع ما خلق الله عز وجل، فهداه الله تعالى لما يقيم أوده، ويصلح معاشه.
¥