(يَا أَيُّهَا الْإِنْسَانُ مَا غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ): هذا الأسلوب فيه عتاب مؤثر للغاية. (الإنسان) ذكر بعض المفسرين أن لمراد بالإنسان، في القرآن المكي، الإنسان الكافر، لا جنس الإنسان. (ما غرك) "ما" استفهامية، والمعنى: ما الذي زين لك، وسول لك, فهذا استفهام إنكاري، ينكر على هذا الإنسان المنفلت، تركه لعبادة الله عز وجل. (بربك الكريم) هو رب بمعنى خالق , ورازق, ومدبر, وفوق ذلك هو كريم عليه, ولطيف به، فأي شيء يغرك به، ويسول لك ترك عبادته، ويزين لك معصيته؟!

(الذِي خَلَقَكَ فَسَوَّاكَ فَعَدَلَكَ): معنى (خلقك) أي أنشأك، وأوجدك من العدم, فقد أوجد أبانا آدم، عليه السلام، من العدم. ومعنى (فسواك): أي من أي عَدّل خلقك, وكملك، فصرت مستقيم القامة , لست كهيئة الحيوانات التي تمشي على أربع, بل أنت معتدل مستقيم. ومعنى (فعدلك): أي جعلك على أحسن هيئة.

(فِي أَيِّ صُورَةٍ مَا شَاءَ رَكَّبَكَ) أي أنه لو شاء ركبك في أي صورة , فلو شاء لجعلك مسخاً, لكنه جعلك في صورة كريمة، وهي هذه الصورة التي خلقك عليها، إما أن تنزع بشبهك إلى أمك، أو إلى أبيك، أو إلى عمك، أو إلى خالك, وهذا من بديع خلق الله, فلا تجد بشرين متطابقين تمام المطابقة, وهذه سعة لا يملكها أحد إلا الله, لكل إنسان صورة مستقلة، متفردة، حتى التوائم المتشابهة، التي تخرج من انفلاق بويضة مخصبة واحدة، لا يمكن أن تتطابق, بل تجد بينهما فروقاً. لكن هذه الصور، منها صور متباينة، ومنها صور متقاربة في الأطوال، والألوان، والسمات, حتى إن بصمة الإنسان لا يشابهها بصمة! من ذا الذي يقدر على هذا أن يوجد من الاحتمالات، من أول مخلوق إلى آخره، ما لا ينطبق على غيره؟ هذا شيء عجيب!

وهذا الخلق الذي أجمل الله ذكره، يستطيع أن يتأمله كل مخاطب وإن كان بسيطاً؛ فالأعرابي في باديته , والأمي الذي لا يقرأ ولا يكتب، حينما يُسَرِّح طرفه، ويفكر بعقله، يجد عجباً، وينبهر، ويندهش من سعة خلق الله، وبديع صنعه، وتدبيره, حتى أنك تسمع من بعض العوام الذين لا يقرؤون، ولا يكتبون، استنباطات، ومعاني ما تسمعها من بعض العلماء. ثم إن العلم الحديث أتى بالعجائب، فيما يسمى بعلم وظائف الأعضاء، مما يزيد هذه المعاني وضوحاً، ويزيد الإيمان قوة إلى قوته. في بدنك جهاز هضمي، وجهاز دموي، وجهاز عصبي، وجهاز عضلي، وجهاز عظمي، وجهاز تناسلي، وتركيبة نفسية معينة, فهذا الخليط، والمزيج، في بنية واحدة، من ركَّبه؟ من سوَّاه؟ من عدَّله؟ الله سبحانه وتعالى. وتبدو محاولات البشر فيما يسمي بالإنسان الآلي، الذي يحاولون أن يدخلوا فيه بعض حركات الإنسان وتصرفاته, محاولات عبثية، يضاهئون خلق الله وأنى لهم. فهذا آية تطأطئ لها الرقاب، وتخضع لها الأعناق. ووقع هذه الآيات على النفس وقع قوي, فمن كان به خير، وأراد الله به خيراً، فإنها تهزه من الأعماق؛ لأنها تذكره بأصل نشأته، وتمرحله، وتطوره منذ أن كان جنيناً، إلى أن خرج طفلاً رضيعاً، إلى أن شب، واستوى، واستقام. هذه المؤثرات هي التي تنصع الإيمان في القلب. ولهذا ينبغي للدعاة إلى الله عز وجل، أن يتذرعوا بها، وأن يحركوا بها كوامن النفوس، وأوتار القلوب.

(كَلَّا بَلْ تُكَذِّبُونَ بِالدِّينِ): (كلا) كلمة ردع، وزجر. ومعناها: ليس الأمر كما تظنون , ومعنى (بل): أي لكن, (تكذبون بالدين) يعني: ألا يعظكم، ألا يزجركم إقراركم بربوبية الله، فيحملكم على عبادته؟ فالله تعالى يسوق آيات الربوبية، ليبين استحقاقه للعبادة سبحانه وبحمده. ومعنى (الدين) أي الجزاء , من دنته فدان، أي: ذل، وخضع , فالله تعالى هو الذي يدين العباد.

(وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحَافِظِينَ): هذه الجملة مؤكدة بأنواع المؤكدات "إن","عليكم","لحافظين" , (لحافظين) هم الملائكة. وتأمل في لفظ (عليكم)، لم يقل "عندكم" أو "معكم" بل قال (عليكم) ليفيد التسلط والرقابة, وهو يشعر بالخشية، والرهبة, (لَحَافِظِينَ) إذاً هم حفظة, ومؤتمنون , وضابطون لعملهم، لا يفرط منهم شيء، كما قال في آية أخرى: (مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلاَّ لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ) , وقال: (بلى ورسلنا لديهم يكتبون).

¥

طور بواسطة نورين ميديا © 2015