(كِرَامًا كَاتِبِينَ): أي شرفاء، أمناء، حفظة، ضابطين، كاتبين؛ لأن الكتابة توثيق. ولهذا أمر الله تعالى بها فقال: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا إِذَا تَدَايَنْتُمْ بِدَيْنٍ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى فَاكْتُبُوهُ).
(يَعْلَمُونَ مَا تَفْعَلُونَ): جعل الله ملائكته يحصون على العباد, ويسجلون ما يبدر منهم، من خير أو شر، لأنهم يباشرون ذلك, فإذا أوصد الإنسان الأبواب, وأرخى الستور, وظن أنه قد غاب عن الأعين, فليذكر أن معه كراماً كاتبين. فلو شعرت أنه يطلع عليك فلان، الذي تُجِلُّه، وتقدره، ستخجل، وترعوي، وتستحي من مقارفة هذا الفعل المشين أمامه , فكيف إذا ذكرت أن معك كراماً كاتبين؟ وكيف إذا ذكرت أن الذي يراك رب العالمين؟
(إِنَّ الأَبْرَارَ لَفِي نَعِيمٍ): (الأبرار) جمع بر, والبر هو كثير الخير؛ ولذلك سمي البر براً، لسعته. ومعنى (نعيم) النعيم: هو الجنة، وما فيها من أنواع المتع. وأتى بحرف "في" (لَفِي نَعِيمٍ) , ولم يقل "إن الأبرار لهم نعيم" ليعطي معنى الانغماس والانغمار، كأنهم غمسوا في النعيم غمساً، واصطبغوا به، وغمرهم من كل جانب.
(وَإِنَّ الْفُجَّارَ لَفِي جَحِيمٍ): (الفجار) جمع فاجر, من الفجر، وهو هتك ستر الدين , فكأنه لما هتك ستر الدين، وتقحم الحرمات، سمي فاجراً. (جحيم): اسم من أسماء النار، والعياذ بالله, ونقول في (في) ما قلنا في قوله (لَفِي نَعِيمٍ) أنهم منغمسون فيها.
(يَصْلَوْنَهَا يَوْمَ الدِّينِ): (يصلونها) أي يصطلون بنارها، ووهجها، وحرها, فتحرقهم، وتشويهم، والعياذ بالله , حتى إن النبي صلى الله عليه وسلم، أخبر عن قوم من عصاة الموحدين، يدخلون النار (حَتَّى إِذَا كَانُوا فَحْمًا، أُذِنَ بِالشَّفَاعَةِ، فَجِيءَ بِهِمْ ضَبَائِرَ، ضَبَائِرَ، فَبُثُّوا عَلَى أَنْهَارِ الْجَنَّةِ، ثُمَّ قِيلَ: يَا أَهْلَ الْجَنَّةِ! أَفِيضُوا عَلَيْهِمْ، فَيَنْبُتُونَ نَبَاتَ الْحِبَّةِ تَكُونُ فِي حَمِيلِ السَّيْلِ) متفق عليه، فكيف بأهل النار الذين هم أهلها؟
(يَوْمَ الدِّينِ) هو أحد أسماء القيامة، لأنه يوم الجزاء والحساب , وتقدم أن ليوم القيامة أسماء عدة، بلغ بها بعض العلماء ثمانين اسماً, وأن أسماء القيامة أعلام، وأوصاف، كما أسماء الله الحسنى, وكما أسماء نبيه صلى الله عليه وسلم , وكما أسماء القرآن.
(وَمَا هُمْ عَنْهَا بِغَائِبِينَ): يعني أنهم لا يغيبون عن العذاب طرفة عين, كلما فرغوا من عذاب انتقلوا إلى آخر، عياذاً بالله, وكلما أرادوا أن يخرجوا منها من غم، أعيدوا فيها، عياذاً بالله. شيء تقشعر له الأبدان، لمجرد ذكره فكيف بمن اصطلى بناره؟ وفي هذه الآية ما يدل على بقاء النار، وأنها لا تفنى, وأن أهلها لا يخرجون منها.
(وَمَا أَدْرَاكَ مَا يَوْمُ الدِّينِ (17) ثُمَّ مَا أَدْرَاكَ مَا يَوْمُ الدِّينِ): هذا الاستفهام، وهذا التكرار، يراد به التفخيم, والتعظيم, والتهويل. (وَمَا أَدْرَاكَ مَا يَوْمُ الدِّينِ): كأنما يقال: ذلك الإنسان لم يقدر الأمر حق قدره، "أتدري ما يوم الدين؟ أتعرف ما يوم الدين؟ " كما قال: (الْحَاقَّةُ (1) مَا الْحَاقَّةُ (2) وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْحَاقَّةُ).
ثم أجاب الله تعالى على هذا السؤال , وهذا من تفسير القرآن بالقرآن، فقال:
(يَوْمَ لَا تَمْلِكُ نَفْسٌ لِنَفْسٍ شَيْئًا وَالْأَمْرُ يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ): ولهذا نظير، كقوله: (لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ لِلَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ). أي لا تملك أي نفس، لأي نفس أخرى نفعاً، ولا ضراً, (شيئاً) نكرة في سياق النفي، فتدل على العموم. (وَالْأَمْرُ يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ) كقوله: (لِلَّهِ الْأَمْرُ مِنْ قَبْلُ وَمِنْ بَعْدُ).
الفوائد المستنبطة
الفائدة الأولى:بيان أهوال يوم القيامة.
الفائدة الثانية:إثبات البعث من قوله (وَإِذَا الْقُبُورُ بُعْثِرَتْ).
الفائدة الثالثة:إقرار الإنسان بعمله يوم القيامة (عَلِمَتْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ وَأَخَّرَتْ).
الفائدة الرابعة:وقوع الكافر في الغرور (يَا أَيُّهَا الْإِنْسَانُ مَا غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ).
الفائدة الخامسة:أن العبادة هي مقتضى الربوبية.
الفائدة السادسة: بديع صنع الله في الإنسان.
الفائدة السابعة:ذم منكري البعث لقوله: (كَلَّا بَلْ تُكَذِّبُونَ بِالدِّينِ).
الفائدة الثامنة: الإشارة إلى أحد دلائل البعث، وهو الدينونة، لأنه يحصل بها إحقاق الحق، وإبطال الباطل, والله تعالى قد خلق السموات والأرض بالحق، فليس من الحق أن يموت الظالم على ظلمه، والمظلوم على مظلمته، والمحسن على إحسانه دون ثواب، والمسيء على إساءته دون عقاب, فلهذا كان الجزاء من دلائل البعث.
الفائدة التاسعة:الإيمان بالملائكة الكرام , وهو أصل من أصول الإيمان.
الفائدة العاشرة: خلود النار، ودوام العذاب على أهلها، من قوله (وَمَا هُمْ عَنْهَا بِغَائِبِينَ).
الفائدة الحادية عشر: بطلان الشرك، وكل تعلق بغير الله, وهذا يؤخذ من الجملة الأخيرة من قول الله عز وجل: (يَوْمَ لَا تَمْلِكُ نَفْسٌ لِنَفْسٍ شَيْئًا وَالْأَمْرُ يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ) , ومن تعلق بغير الله وكل إليه, فكل من تعلق بسبب فإنه ينقطع, إلا ما كان سبباً إلى الله عز وجل؛ من خوف , أو رجاء , أو محبة , أو توكل , أو نحو ذلك.
¥