وإذن فالله تعالى خلق الخَلْقَ ووضع كلَّ شيءٍ فيه بميزانٍ محكمٍ مضبوطٍ على مقدارٍ وحدٍّ معيّنٍ لا تفاوت فيه ولا خلل، كما أنّه جلّ جلاله أنزل كتابَه الحقَّ بميزانٍ محكمٍ مضبوطٍ بنسبٍ دقيقةٍ لا تتغيّر ولا تتبدّل.

فلماذا نستبعد إذن أن تكون مكوّناتُ القرآن، من سور وآيات وحروف وكلمات، موضوعةً في نظم عدديٍّ قد قُدِّر تقديراً، وأنّ ذلك النظم قد انعقدت فيه معاقد نسب وشبكة في إطار منظومات عدديّة جماليّة قرآنيّة معجزة؟!

ثالثاً: ثمّ مَن قال إنّ الذين سبقونا من أهل العلم كانوا ممّن أغلقوا أبواب التحرّي في العدّ والحساب والإحصاء في القرآن. اقرؤوا ما جاء في الإتقان والبرهان وملاك التأويل ودرّة التنزيل عن السور المقطعة وغيرها، وإنّ اللطائف والدقائق المنثورة في كتب الأوّلين لتشهد بأنّهم كانوا ذوي عناية في هذا الباب.

رابعاً: وهنا ليسمح لي أخي بكر الجازي حفظه الله بأن أتوجّه إليه في الكلام حول هذه النقطة بالذات، لأنّه القائل: "إن كان عندكم ما يدلكم على أصل المسألة، فأوردوه، وإلا فإن التوافق العددي أمر يمكن تحصيله في أي كلام .... "!

فأقول: والله يا أخي لو ذهبتَ تَفلي كلام العرب من شعر شعرائهم على أن تجد لكلامهم صفة من صفات الوحي الإلهيّ التي تكسب الكلام مثل هذه الغرابة في الأعداد، لما أصبتَ في كلّ ذلك ممّا تختاره إلا لغة وأوضاعاً ومعانيَ إنسانيّةً، لا ترضاها للتمثيل والمقابلة مع كلام الله تعالى .. وسأضرب لك ثلاثة أمثلة للبيان والتوضيح:

المثال الأول: تأمّل قول الله عزّ وجلّ: ? إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِندَ اللَّهِ اثْنَا عَشَرَ شَهْرًا فِي كِتَابِ اللَّهِ يَوْمَ خَلَقَ السَّمَاوَات وَالأَرْضَ مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ فَلاَ تَظْلِمُواْ فِيهِنَّ أَنفُسَكُمْ وَقَاتِلُواْ الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً كَمَا يُقَاتِلُونَكُمْ كَافَّةً وَاعْلَمُواْ أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ ? [التوبة: 36]، وأنعم على التفكّر في اقتران كلمة (عدّة) بقوله تعالى: (في كتاب الله)! فأنا وأنتَ نعلم أنّ معنى (في كتاب الله): اللوح المحفوظ! لكن! لسنا وحدنا المخاطبين في هذه الآية! فقد يقرؤها أحد المناطقة ممّن لهم باع طويل في مبدأ تقصّي الأخطاء والإحالة الذاتية وغيرها من المصطلحات الرياضيّة، فيتنبّه إلى أنّ الآية تقول إنّ عدة الشهور عند الله اثنا عشر شهراً!! وأين؟ (في كتاب الله)! طيب كتاب الله هو القرآن! جميل! وجدنا ممسكاً على القرآن! لنعدّ المرّات التي تردّدت فيها كلمة شهر (في كتاب الله)! وصدّقني يا أخي لو أنّه وجد أنّ هذه الكلمة تردّدت في القرآن أكثر من اثنتي عشرة مرة أو أقلّ من ذلك، لما وسعه إلا أن يقول: قد أخطأ القرآن! حاشاه! ولهذا فإنّ دقّة الميزان الذي وُضع عليه النظم الحكيم تتجلّى في أنّ كلمة (شهر) تكرّرت في كتاب الله اثنتا عشرة مرة بالضبط! فتأمّل أنتَ هذا الأسلوب القرآنيّ العُجاب، ومنهجه الفذّ المبتكر، هل تجد سابقاً جاء بمثاله، أو لاحقاً طُبع على غراره؟ أفلا ترى أنّ هذه العدّة مقصودة ومرادة؟ وأنّ المعاني قد ترتّبت وفقها على الوجه الذي ينبغي؟

المثال الثاني: تأمّل قول الله تعالى: ? إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِندَ اللَّهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِن تُرَابٍ ثُمَّ قَالَ لَهُ كُن فَيَكُونُ ? [آل عمران: 59]، وانظر كيف انعقدت فيه معادلة التّشبيه بين خلق عيسى وآدم، ليقرّب الله عزّ وجلّ من خلاله الاعتقادَ الحقَّ في أمر عيسى عليه السلام. وأنتَ تعلم أنّ قوله تعالى: (إنّ مثل عيسى عند الله) مُشَبَّه، وقوله: (كمثل آدم خلقه من تراب) مُشَبَّهٌ به، وأنّ وجهَ الشّبهِ كونُ كلّ واحد منهما خُلق بدون أب. ثمّ انظر كيف جاءت المعادلة بطرفَيْها لتفتح باباً من الجليّ على الخفيّ: مِن خلق آدم الذي يعترف اليهود والنصارى بأنّه خُلق بدون أب وبدون أمّ، على خلق عيسى المختلَف فيه عندهم.

¥

طور بواسطة نورين ميديا © 2015