إذ ادّعى النصارى أنّ المسيح ابن الله، وقالوا: كيف يكون ابنٌ بدون أب؟ وأما اليهود فزعموا أنّ المسيحَ مولودٌ من ذكر وأنثى، وأنّ ميلاده كان على فراش الإثم والفاحشة، وقالوا: إنّ ميلادَه من غير أب خارجٌ عن القدرة. فما احتملت عقول الفريقين حقيقة أنّ الله تعالى على كلّ شيء قدير، وأنّه إذا أراد شيئاً إنّما يقول له: كُنْ فَيَكُون!

ومن هنا كان الغرض من قنطَرَتَيْ هذا التشبيه إقامة الحُجّة على النصارى واليهود بأنّ عيسى عليه السلام مخلوقٌ من غير أب، كَمَثَلِ آدم الذي خلقه الله تعالى من غير أم ولا أب. فشبّهت الآية الغريب بالأغرب، وخَرْقَ العادة بما هو منها أخرق، ليكون ذلك أقطع للخصم وأحسم لمادّة الشُّبْهَة.

ثمّ إنّ في هذا التّشبيه إيحاءاتٍٍ، قد جمعت إلى جماله عزّة وغرابة. وأيّما مسلم يعرف دلالات اللّغة لَيَعْلَمُ أنّ في الآية سرًّا جاء التّنويه به عرضاً، ليكون فيه القول الفصل والحُجّة الأقوى، وليقطع الخصم ويحسم النزاع.

وبيان ذلك أنّ القرآن الكريم أورد طرفَيْ المماثلة، آدم وعيسى، بنسب متساوية. فقد تردّد اسم آدم في القرآن (25) مرّة، كما تردّد اسم عيسى فيه (25) مرّة! وهذا يعني أنّ القرآن الكريم جعل طرفَيْ المماثلة في معادلة التشبيه في التساوي الحقيقيّ، فجاء على هذا الوجه الذي يستنفد كلّ ما في العقول البيانيّة من الفكر!

وإذن فقد ظهر وجهُ شَبَهٍِ جديد بين عيسى وآدم عليهما السلام، وهو أنّ القرآن ذكرهما بنسب متساوية. وهكذا عَقَدَ التشبيهِ هنا معاقدَ نسب وشبكة بين ما يُراد إيضاحه، وبين أمر واضح راسخ في أذهان الناس، وذلك ليقيم الله به الحُجّة على الذين جعلوا خلق عيسى عليه السلام موجباً نسبةً خاصّةً عنده، فبيّن لهم أنّ نسبة المسيح إليه سبحانه لا تزيد على نسبة آدم شيئاً!

فأنتَ ترى أنّ جِماع هذه المعاقد: مثل عيسى كمثل آدم! وهكذا جاء نسق هذه الآية الكريمة في معرض تبيان هذه الحقيقة، وليكشف للناس مظهراً جديداً من إعجاز هذا الكتاب العزيز، الذي سيظلّ كتاب الدّهر كلّه.

المثال الثالث: وفيه معنى من أبين معاني الإعجاز العدديّ، إذ هو يكشف لك براءة القرآن عن التفاوت والتناقض، والزيادة والنقصان، والتزييف والتحريف، والتبديل والتغيير، وصدق الله العظيم إذ يقول: ? أَفَلاَ يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِندِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُواْ فِيهِ اخْتِلافًا كَثِيرًا ? [النساء: 82]. وأنتَ تعلم أنّ المراد بسلامة القرآن عن الاختلاف والتفاوت أنّه كتابٌ كبيرٌ، وفيه من أنواع العلوم الشيء الكثير، ومن فروعها الشيء الوفير، وهو قد أدار معانيَ تلك العلوم وفروعها بتراكيب متفاوتة الطُّعوم والنكهة والتأثير، وكلّ ذلك جاء فيه على أتمّه، ليس فيه اضطراب أو التواء، كأنّه مفرَّغٌ جملة واحدة. ولو كان القرآن من عند غير الله، لوقع فيه أنواعٌ من الكلمات المتناقضة، ولظهر فيه شيء من التكلّف والتصنّع والمحاولة، وهذا كلّه ممّا يجتمع في كلام الناس، لكن ليس في كلام الله!

ولهذا يصرّح القرآن الكريم في آية سورة النساء بأنّ سلامته عن الاختلاف دليلٌ على كونه من عند الله تبارك وتعالى. وهو يفعل ذلك بكلّ قوّة وثبات. ولو أطال متدبّرو القرآن العظيم النّظرَ في هذه الآية الكريمة، ووقفوا على موقع هذا الفصل من الآية، وتأمّلوا كلمة (اختلافاً) فضل تأمّل، لبلغوا منها عجباً. وذلك أنّ الكلمات في آية سورة النساء قد صيغت بتركيب فريد يحتمل معنًى جليلاً، وهو أنْ لو كان هذا القرآن من تأليف بَشَرٍ، لوجد فيه مَن يتدبّره أنّ كلمة (اختلافاً) جاءت فيه أكثر من مرّة واحدة، لكنّ هذه الكلمة لم ترد في كلّ القرآن الكريم بالألف المنصوبة المنوّنة إلا في هذه الآية الكريمة، فدلّ هذا على أنّ القرآنَ لا ريب من عند الله جلّ في علاه. فتأمّل أنتَ الدقّة في اختيار هذه الكلمة، وانظر كيف أُحكمت في الآية لتتناسب مع صِيَغِ ورودها في القرآن بميزان دقيق لا يضلّ ولا ينسى.

وذلك هو وجه الإعجاز اللّغوي المتّصل بالعدّ والإحصاء في القرآن! وهو متّصل فيه اتصالاً سببيًّا كما ترى .. ولسنا نعرف في العربيّة التي تستشهد بها أخي بكر الجازي بارك الله فيك أسلوباً يجتمع له مع تلك الحالة العدديّة هذه الصّفة.

¥

طور بواسطة نورين ميديا © 2015