بعد الحديث عن عدم التناقض يأتي الحديث عن التوافق بين الحقائق القرآنيّة والحقائق العلميّة. وحتى يكون التوافق إعجازاً لا بد أن تكون المسائل المطروحة تتعلق بعلوم هي من اختصاص العلم المعاصر، أي العلوم التي نعلم تماماً أنّها معطيات العصور الحديثة ولا يسهل الزعم بإمكانيّة توصل الإنسان إليها في الماضي.

فعلى سبيل المثال، لو أخبرَ الرسول، صلى الله عليه وسلم، أنّ نبتة معينة تشفي من مرض معين، فإنّ ذلك لا يُعتبر من باب الإعجاز العلمي، لاحتمال أن يكون البشر قد توصلوا إلى ذلك من خلال التجربة. أمّا التفصيل في الحديث حول تطور الجنين في رحم أمّه فإنّ ذلك من باب الإعجاز، لأنّ معرفة مثل هذا الأمر يحتاج أولاً إلى اكتشاف المجاهر، ثم إلى اكتشاف الأشعة السينيّة والموجات فوق الصوتيّة ... الخ، وذلك كله لم يكُن متيسراً للبشر قديماً. وعندما تكثر الأمثلة المتعلقة بالتوافقات المتنوعة، والمنتمية لأكثر من فرع من فروع العلم، يصبح الأمر أشد إعجازاً. وبذلك يحصل التكامل المطلوب بين مبدأ عدم التناقض ومبدأ التوافق.

الحق أن الأمر بخلاف ما قال الشيخ بسام، فلو أن الرسول صلى الله عليه وسلم قال – على سبيل المثال-: الصاعد في السماء يختنق، أو قال – مثلاً-: الخطوط الجلدية (البصمات) لا تتفق بين بني البشر كما لا تتشابه الوجوه، أو قال –مثلاً-: النجوم لها أصوات كما لو طرق أحدكم باب بيته، لكان هذا صريحاً في الدلالة على الحقيقة العلمية، ولنزلنا هذا منزلة الأخبار الصادقة التي أخبر بها النبي صلى الله عليه وسلم ووقعت، كما أخبر بفتح القسطنطينية، وبمقتل عمار ابن ياسر رضي الله عنه. أما تلك الإشارات البعيدة الخفية المزعومة فليست بشيء، وقد بينا بحمد الله تهافت القول بالإعجاز العلمي في آية ((كأنما يصعد في السماء))، وفي أطوار الجنين بما فيه مقنع، مع أن أنصار الإعجاز العلمي يزعمونها من أقطع الآيات في الدلالة على الحقيقة العلمية.

ثم إنه قد سبق لنا البيان بأن دفع التعارض بين القرآن والحقائق العلمية أو العقلية، والذي يؤدي إلى التوافق بين القرآن وحقائق العقل إنما هو عمل المفسر في حمل آيات القرآن على ما لا يخالف أدلة العقل. وهذا مبني على تثبيت أن القرآن من عند الله وليس كلام بشر، ولا يجوز أن يكون لهذا مدخل في إثبات الإعجاز، وباختصار:

المفسر يدفع ما ظاهره التعارض بين القرآن وأدلة العقل أو حقائق العلم الحديث على وجه سائغ من التأويل تقبله لغة العرب.

فلا يجوز للمفسر بعد ذلك أن يدعي أن هذا التأويل الذي صار إليه لدفع التعارض دليل على أن القرآن من عند الله، لأنه متفق مع أحدث النظريات العلمية، ذلك أن المفسر بتأويله هو من دفع ذلك التعارض، فكيف يعود ويجعله دليلاً على الإعجاز العلمي للقرآن!!!

وقد يعمد البعض، ممن يكتبون في الإعجاز العلمي، إلى التوسع المؤدّي إلى التعسّف وتحميل النصوص ما لا تحتمل، رغبة منهم في جذب الناس وتقريبهم إلى الدين. وهذا مسلك يأباه الدين الحنيف، وهو بناء على أسس هشّة غير متينة. من هنا ينبغي التنبه إلى ذلك والتدقيق والتمحيص قبل إصدار الحكم بوجود الإعجاز العلمي.

مثال على خطأ في منهج التفكير:

ترجع بعض الأخطاء في هذا الباب إلى خلل في منهجيّة التفكير أو غفلة يدعو إليها التسرّع أو التقليد غير الواعي. ومن أبرز الأمثلة على ذلك المسالة المشهورة، والتي يرددها حتى بعض كبار العلماء المعاصرين، عندما يقولون: إنّ القرآن الكريم قد تحدث عن الذرّة باعتبارها أصغر جزء في المادة. وهذا فهم عجيب لأمور:

1. لم ينص القرآن الكريم على أنّ الذرّة هي أصغر جزء في المادة، بل على العكس تماماً فقد ذكر أنّ هناك ما هو أصغر من الذرّة؛ جاء في الآية 61 من سورة يونس:" ... وما يعزُبُ عن ربّك من مثقال ذرّة في الأرض ولا في السماء ولا أصغرَ من ذلك ولا أكبرَ إلا في كتاب مبين". وورد مثل هذا المعنى في الآية 3 من سورة سبأ.

2. الذرّة: لغة هي النملة الصغيرة، والذّر هو النمل الصغير. فكيف تمّ تحريف هذا المعنى ليصبح معنى الذرة هو أصغر جزء في المادة؟!

3. يتألّف أصغر جزء في المادة من بروتونات ونيوترونات وإلكترونات. وهو يسمى في لغة مكتشفيه ( صلى الله عليه وسلمtom) أما تسميته (ذرّة) فاجتهادُ مُترجَم بعد قرون من نزول القرآن الكريم، وكان يمكن أن تترجم الكلمة ترجمة أخرى.

كلام الشيخ هنا جميل، إذ بين كثيراً من الأخطاء التي يقع فيها مدعو الإعجاز العلمي، في تحميل آيات القرآن ما لا تحتمل ...

ولعلي أزيد فأقول: إن الآيات التي يدعونها قاطعة في الدلالة على الحقيقة العلمية قد تبين تهافتها، كما في آية ((كأنما يصعد في السماء))، إذ بينا أن في القول بما يدعيه أرباب الإعجاز العلمي خروجاً على أصول البلاغة وحسن الإفهام، وأن القول بالإعجاز العلمي في آيات الجنين يلزم منه اتهام العلماء السابقين كالإمام مالك والشافعي وغيرهم ممن أفتوا في العلقة والمضغة ...

ولو تأملت أخي آخر ما وقع فيه الإخوة في موضوع ((تهافت القول بالإعجاز العلمي في قوله تعالى (كأنما يصعد في السماء)) إذ زعموا الآية دالة على قانون الجاذبية، وعلى اختراع الطائرة ... إلخ، عرفت إلى أين وصل الخلل منهجية التفكير، والتسرع والتقليد غير الواعي الذي أشار إليه الشيخ بسام ...

هذا ما رأيته في كلام الشيخ الذي أوردته، أرجو به أن أكون زدت في بيان الأمر وإجلائه، فإن كان صواباً فمن الله، وإن كان خطأ فمن نفسي ومن الشيطان ...

وبارك الله فيك ...

¥

طور بواسطة نورين ميديا © 2015