وهذا يعني ابتداء إمكان أن يفهم من ظاهر كلام الله ما هو مخالف لأدلة العقل، كما فهم القرطبي أن الأرض ممتدة، وكما فهم ابن عثيمين أن الشمس تدور حول الأرض، إلا أننا نلجؤ للتأويل حتى لا يناقض المنقول المعقول، وليس المقصود أي تأويل، بل تأويل سائغ جار على معهود العرب.

2. وعليه فإن الزعم بأن توافق القرآن مع معطيات العلم في كثير من المسائل ... إلخ، لا يغني في محل النزاع، بيان ذلك أننا إذا سلمنا بإمكان أن يفهم من ظاهر القرآن ما يخالف أدلة العقل، ثم صرنا إلى تأويل سائغ على معهود العرب في كلامها، فلا محل للاستدلال بأن القرآن يتوافق مع معطيات العصر.

وأعيد ذكر المثال بما يتضح به المقصود فأقول: لو أن الناس فهموا ما فهمه القرطبي من قوله تعالى ((مد الأرض)) بأن الأرض ممتدة وليس كروية، ثم ثبت لنا بأدلة العقل ما هو بخلاف هذا، لم نحكم ببطلان الآية، بل حكمنا ببطلان ما فهمه القرطبي من الآية، وكذلك الأمر في بطلان قول ابن عثيمين بأن الشمس تدور حول الأرض.

وهذا – يا أخي الكريم- آت من أننا نومن بأن القرآن من عند الله، ونومن بأنه لا يجوز أن يداخله الاختلاف والتناقض، لذلك فإنه إذا أوهم ظاهره خلاف العقل، صرنا إلى تأويل سائغ تنزيهاً لكلام الله أن يداخله الاختلاف.

فلا يجوز إذن أن يكون فعلنا نحن في تأويل كلام الله بما يوافق أدلة العقل دليلاً على الإعجاز العلمي للقرآن.

وهذه نقطة دقيقة في تحرير محل النزاع: عدم التناقض الذي تكلم عنه الشيخ بسام، والذي هو عمل المفسر في دفع ما ظاهره التعارض، لا يجوز أن يجعل دليلاً على الإعجاز العلمي في القرآن، وبمعنى آخر أقول:

إن من عمل المفسر أن يدفع ما ظاهره التعارض بين القرآن وأدلة العقل أو حقائق العلم الحديث على وجه سائغ من التأويل تقبله لغة العرب، فلا يجوز للمفسر بعد ذلك أن يدعي أن هذا التأويل الذي صار إليه لدفع التعارض – والذي هو عمل المفسر- دليل على أن القرآن من عند الله، لأنه متفق مع أحدث النظريات العلمية، ذلك أن المفسر بتأويله هو من دفع ذلك التعارض، فكيف يعود ويجعله دليلاً على الإعجاز العلمي للقرآن!!!

كيف يمكن لبشر، بعد كل هذه الظلمات، أن يتكلم في فروع العلوم المختلفة، ثم هو لا يتناقض في مسالة واحدة، على الرغم من مضي 1400 سنة، وعلى الرغم من النهوض العلمي الهائل في العصور الأخيرة؟!

ونحن لا نسلم أن محمداً صلى الله عليه وسلم تكلم في فروع العلوم المختلفة، بل إنه صلى الله عليه وسلم بعث لبيان أمر الدين، وما يتعلق به حال العبد من التكليف والتعبد، لا ليخبرنا بأن التصعد في السماء يؤدي إلى الاختناق، ولا ليكشف لنا عن بصمات الأصابع، فإن تكلم بشيء مما هو في حيز العلوم، فهي من جنس علوم العرب التي كانوا يعرفونها كما أشار إلى ذلك الإمام الشاطبي ...

المقصود بعدم التناقض:

نُقل القرآن الكريم إلينا بالتواتر، أي أنّه قطعي الثبوت إلى الرسول، صلى الله عليه وسلم. وفي القرآن الكريم ألفاظ لا تحتمل أكثر من معنى، مثل قوله تعالى:" إنّما إلهكم إله واحد"؛ فكلمة واحد لا تحتمل أكثر من معنى، أي أنها قطعيّة الدلالة. وقد سمّى البعض ما يثبت بقرآن لا يحتمل أكثر من معنى حقيقة قرآنيّة. أما الحقيقة العلميّة فهي القانون الذي أثبته العلم وأقام عليه الأدلة القطعيّة.

عندما نقول: لا تناقض بين القرآن الكريم ومعطيات العلم فإنّما نقصد بذلك أن لا تناقض بين حقيقّة قرآنيّة وحقيقة علميّة. وهذا يعني إمكانية حصول تناقض بين نظريّة علميّة وحقيقة قرآنيّة، أو حقيقة علميّة وقرآن يحتمل أكثر من معنى ويكون التناقض مع أحد المعاني المحتملة.

لاحظ – أخي- أن هذا قائم على تثبيت أن القرآن من عند الله أولاً، ولذلك نسلك في دفع ما ظاهره التعارض إلى تأويل سائغ على معهود العرب. ولذلك لن يكون هناك تعارض بين كلام الله وأدلة العقل. إلا أن هذا مبني على الإقرار والاعتراف بأن هذا كلام الله، فكيف يكون هذا دليلاً على إعجاز القرآن؟

¥

طور بواسطة نورين ميديا © 2015