(ولمّا ذكرَ الدَّلائلَ السَّماويَّةَ، أتبعَها بذكرِ الدَّلائلِ الأرضيَّةِ، فقالَ ?وَهُوَ ?لَّذِي مَدَّ ?لأَرْضَ?، قال الفرّاءُ: بسطَها طولاً وعرضاً. وقالَ الأصمُّ: إنَّ المَدَّ: هو البسطُ إلى ما لا يُدرَكُ منتهاه، وهذا المدُّ الظّاهرُ لِلْبَصَرِ لا يُنافي كُرِيَّتَها في نفسِها لِتباعُدِ أطرافِها).
فانظر إلى الإمام الشوكاني رحمه الله يقرر أنَّ مدَّ الأرضِ لا يُنافي كُرَوِيَّتَها، وإذا ما ثبتَ – عقلاً- أنَّ الأرضَ كُرَوِيَّةٌ كان هذا مانعاً عقليّاً من حملِ "مدِّ الأرضِ" الواردِ في الآيةِ على معنى المدِّ المقابلِ للكُرَوِيَّةِ، أي أنَّ المدَّ المقصودَ بالآيةِ هو المدُّ الظاهرُ لِلبَصَرِ، لا على معنى أنها سطحٌ غيرُ كُرويٍّ، وكذلك فإنَّ استقرارَ الأرضِ وثباتَها، وعدمَ الإحساسِ بحركتِها لا يلزمُ منه أنها لا تدورُ حولَ نفسِها وحول الشمسِ.
ونحن وقد عرفنا أنَّ الأرضَ كرويَّةٌ، عرفنا أنَّ المقصودَ بِقولِه تعالى ?مَدَّ الأَرْضَ? إنما هو بسطُها، وليس يلزمُ من كونها مبسوطةً ألاّ تكونَ كُرويَّةً، فإنَّ هذه الكرةَ الكبيرةَ الضخمةَ لا تظهرُ كُرَوِيَّتُها بالإضافةِ إلى حجمِ الإنسانِ أو طولِه، كما أنَّه لو قيلَ لك إنَّ هذا المصباحَ الكهربائيَّ في غرفتِك يضيءُ وينطفيءُ لم تصدِّق ذلك، وما تدركُه ببصرِك أنَّ ضوءَه ثابتٌ مستقرٌّ، فإن قيل لك إنَّه يضيءُ وينطفيءُ خمسين مرَّةً أو ستِّين مرَّةً في الثانيةِ، فلا تَتَمَكَّنُ عينُك من ملاحظةِ ذلك لسرعتِه، قضى عقلُك بإمكانِ ذلك، ثمَّ إذا ما أقمنا لك الدَّلائلَ الفيزيائيَّةَ والكهربيَّةَ على أنَّه بالفعلِ يضيءُ وينطفيءُ لم تَتَرَدَّدْ في قبولِ ذلك، فقولُك بأنَّه ضوءٌ مستقرٌّ ثابتٌ صحيحٌ بالإضافةِ إلى مُدرَك البصرِ، وقولُك بأنَّه ضوءٌ متقطِّعٌ متردِّدٌ صحيحٌ بالإضافةِ إلى قوانينِ الكهرباءِ في توليدِ التَّيّارِ المُتَرَدِّدِ، وليس يلزمُ من كونِه متقطِّعاً في قوانين الكهرباءِ أن يكونَ متقطِّعاً للأبصارِ، ولذلك نأخذ كلام الإمام الشوكاني ونرد كلام القرطبي – رحمهما الله- فيما ذهب إليه.
وواقعُ الأمرِ أنَّ تفسيراتِ العلماءِ السابقين واجتهاداتهم في هذا البابِ إنما هي لِدرءِ تعارضِ العقلِ والنقلِ، أي ما يُتَوَهَّمُ من أدلَّةِ النَّقلِ أنَّه معارضٌ لأدلَّةِ العَقلِ، أو ما ظاهرُه معارضةُ العقلِ، فيصارُ إلى التَّأويلِ على ما تحتمِلُه اللغةُ ومعهودُ العربِ في كلامِها. وكذلك الأمرُ هنا، يكونُ الكلامُ على وجهٍ، والمعارضُ له على وجهٍ آخرَ بحيث لا يتعارضان حقيقةً، وإن كنت تظنُّهما في ظاهرِ الأمرِ متعارضين، فإذا ما فهمنا من آيةٍ ما معنىً معيَّناً، ثم تبيَّنَ أنَّ هذا المعنى الذي فهِمناه يعارضُ أدلَّةَ العقلِ، عرفنا أنَّ هذا المعنى الذي فهمناه غيرُ مقصودٍ بالآيةِ تنزيهاً لِلقرآنِ عن التناقضِ والاختلافِ، وذلك بناءً على اليقينِ الذي لا يتطرَّقُ إليه الشكُّ بأنَّ هذا القرآنَ كلامُ اللهِ الذي لا يأتيه الباطلُ من بين يديه ولا من خلفِه. وفرقٌ كبيرٌ بين من يردُّ وجهاً من وجوهِ التأويلِ لمخالفتِه أدلَّةَ العقولِ، وبين من يدَّعي أنَّ في هذه الآياتِ إعجازاً علميّاً، ويحمِّلُ آياتِ القرآنِ ما لا تحتملُ.
غاية الأمر إذن يا أخي الكريم أن الشيخ ابن عثيمين رحمه الله أخطأ فيما ذهب إليه من أن الأرض تدور حول الشمس، كما أن القرطبي أخطأ حين ظن أن الأرض ساكنة غير كروية.
ثم إني محدثك بأمر آخر:
ألا ترى معي أن هؤلاء الأئمة ممن أخطؤوا معذورون فيما أداهم إليه اجتهادهم؟ ذلك أن ما فهموه من نصوص القرآن هو أول ما يغلب على الظن؟
فالشيخ ابن عثيمين – رحمه الله- ذهب إلى أن الشمس تدور لا الأرض أخذاً بظاهر قوله تعالى فإن الله يقول في القرآن الكريم (وَالشَّمْسُ تَجْرِي لِمُسْتَقَرٍّ لَهَا ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ)، إذ أسند الجريان للشمس، ومن قوله (وَتَرَى الشَّمْسَ إِذَا طَلَعَتْ تَزَاوَرُ عَنْ كَهْفِهِمْ ذَاتَ الْيَمِينِ وَإِذَا غَرَبَتْ تَقْرِضُهُمْ ذَاتَ الشِّمَالِ) إذ أسند للشمس، كما أن الإمام القرطبي فهم بأن الأرض غير كروية من قوله تعالى (مد الأرض) وهذا أمر يمكن أن نفهمه من ظاهر الآيات.
فلما كان هذا الفهم مخالفاً للمعقول المحسوس، عندي وعندك، صرنا إلى التأويل، وقلنا إن المقصود إنما هو حركة الشمس الظاهرية، وقلنا إن المقصود بمد الأرض ليس على ما ينافي كرويتها، وهذا تأويل جارٍ على لغة العرب.
فتحصل لدينا إذن معنيان تحتملهما الآيات من حيث ألفاظها وتراكيبها، وليست دلالة الآيات على أحد المعنيين – من حيث الألفاظ والتراكيب- بأولى من الآخر، بل إنها أظهر في المعنى الأول الخاطيء من المعنى الثاني الذي صرنا إليه؟ بل ما صرنا إلى الوجه الثاني إلا لمخالفة الأول لصريح المعقول، وليس لأن القرآن الكريم دلنا على هذه الحقيقة العلمية.
فكيف تجعل العقل حكما على معنى الآية، ثم تعود فتزعم أن القرآن يدل على هذه الحقائق العلمية؟ وتجعل من هذا إعجازاً؟
وبمعنى آخر: ألم يكن الأولى أن يقال مثلاً – وهذا فقط من باب إلزام القائلين بالإعجاز العلمي فلا يُفهمنَّ على غير وجهه- ألم يكن الأولى أن يقال مثلاً (وترى الشمس إذا بدت لها الأرض تزاور عن كهفهم ذات اليمين، وإذا مضت الأرض في دورانها تقرضهم ذات الشمال) أو شيئاً من هذا القبيل بحيث تكون الآيات دالة – قطعاً- على الحقيقة العلمية؟ بدلاً من أن تكون الآية محتملة لمعنيين متناقضين، فكيف وهي أظهر في الدلالة على المعنى الخاطيء منها على المعنى الصحيح؟
هذا والله أعلم، وصل اللهم على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه وسلم ...
¥