- الذين قالوا بمدنية الآية ظهر لهم دليل قوي يؤكد مكيتها ولا يعزلها عن سورتها المكية ولهذا قالوا بتكرار نزولها في المدينة واستدلوا بما جاء في البخاري: عن عبد اللَّه بن مسعود قال: (بَيْنَا أَنَا أَمْشِي مَعَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فِي خَرِبِ الْمَدِينَةِ وَهُوَ يَتَوَكَّأُ عَلَى عَسِيبٍ مَعَهُ فَمَرَّ بِنَفَرٍ مِنْ الْيَهُودِ؛ فَقَالَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ: سَلُوهُ عَنْ الرُّوحِ، وَقَالَ بَعْضُهُمْ: لَا تَسْأَلُوهُ لَا يَجِيءُ فِيهِ بِشَيْءٍ تَكْرَهُونَهُ، فَقَالَ بَعْضُهُمْ: لَنَسْأَلَنَّهُ؛ فَقَامَ رَجُلٌ مِنْهُمْ فَقَالَ: يَا أَبَا الْقَاسِمِ، مَا الرُّوحُ؟ فَسَكَتَ؛ فَقُلْتُ: إِنَّهُ يُوحَى إِلَيْهِ؛ فَقُمْتُ فَلَمَّا انْجَلَى عَنْهُ؛ قَالَ: "وَيَسْأَلُونَكَ عَنْ الرُّوحِ قُلْ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي (وكلام الراوي – أي عبد الله بن مسعود - في هذا الحديث غير جازم "فَقُلْتُ: إِنَّهُ يُوحَى إِلَيْهِ " وأطلق "القول" هنا على ما يقع في النفس ثم قال ابن مسعود أيضاً: (قَالَ) ولم يقل: (فنزل)، وجاء في البخاري أيضاً ما يشير إلى أن ابن مسعود كان يخمّن تخميناً؛ وهو قوله: (فَلَمْ يَرُدَّ عَلَيْهِمْ شَيْئًا فَعَلِمْتُ أَنَّهُ يُوحَى إِلَيْهِ (أي: أنه ظن ذلك من خلال سكوته وعدم رده؛ ويمكن أن يكون سكوته على توقع مزيد بيان كما ذكر ابن حجر، وقد ذكر ابن مسعود في روايات أخرى بصورة صريحة أنه ظن هذا النزول ظناً ولم يتيقن؛ فقد جاء في صحيح البخاري أيضاً وفي مسند البزار ومسند الإمام أحمد بن حنبل في الواقعة نفسها أن ابن مسعود رضي الله عنه قال: "فَظَنَنْتُ أَنَّهُ يُوحَى إِلَيْهِ" وقد جاء في مسند أحمد ما يدل على أن النبي صلى الله عليه وسلم تلاها تلاوة ولم تنزل: (فَسَكَتَ ثُمَّ تَلَا هَذِهِ الْآيَةَ عَلَيْهِمْ (
- لما رأى ابن مسعود أن النبي صلى الله عليه وسلم – عندما سئل - قد قام وسكت وحنى من رأسه قال "فظننت أنه يوحى إليه" قال فتأخرت عنه أي أدباً معه لئلا يتشوش بقربي منه، فرواية ابن مسعود تدل على أنه رأى هيئة النبي صلى الله عليه وسلم هكذا فتأخر عنه ولم يرد نص يشير إلى أنه تأكد بسؤاله للنبي صلى الله عليه وسلم بعد ذلك.
- يبدو أن اليهود يعرفون إجابته صلى الله عليه وسلم التي وقعت بمكة من قبل؛ ولذلك قال بعضهم لبعض: " لَا تَسْأَلُوهُ، لَا يَجِيءُ فِيهِ بِشَيْءٍ تَكْرَهُونَهُ" وهم يكرهون سماع قوله تعالى: (وَمَا أُوتِيتُم مِّن الْعِلْمِ إِلاَّ قَلِيلاً) في آخر آية الروح هذه؛ ولذلك قال بعضهم بعد إجابة النبي صلى الله عليه وسلم التي يكرهون سماعها - كما روى أحمد - "قَدْ قُلْنَا لَا تَسْأَلُوهُ " وذهب ابن كثير أن قوله {وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلا قَلِيلا} قد نزل بمكة فلما هاجر رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المدينة، أتاه أحبار يهود. وقالوا يا محمد، ألم يبلغنا عنك أنك تقول: {وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلا قَلِيلا} أفَعَنَيْتَنَا أم عنيت قومك؟ فقال: "كلا قد عنيت". قالوا: إنك تتلو أنا أوتينا التوراة، وفيها تبيان كل شيء؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "هي في علم الله قليل، وقد آتاكم ما إن عملتم به استقمتم"
- إن رد فعل اليهود على قوله تعالى: (وَمَا أُوتِيتُم مِّن الْعِلْمِ إِلاَّ قَلِيلاً) قد كان سبباً لنزول آية مكية أخرى؛ إذ روى الترمذي عن ابن عباس قال: (قَالَتْ قُرَيْشٌ لِيَهُودَ: أَعْطُونَا شَيْئًا نَسْأَلُ هَذَا الرَّجُلَ؛ فَقَالوا: سَلُوهُ عَنْ الرُّوحِ، قَالَ: فَسَأَلُوهُ عَنْ الرُّوحِ؛ فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى: "وَيَسْأَلُونَكَ عَنْ الرُّوحِ قُلْ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي وَمَا أُوتِيتُمْ مِنْ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا" قَالُوا: أُوتِينَا عِلْمًا كَثِيرًا، أُوتِينَا التَّوْرَاةَ، وَمَنْ أُوتِيَ التَّوْرَاةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْرًا كَثِيرًا؛ فَأُنْزِلَتْ: "قُلْ لَوْ كَانَ الْبَحْرُ مِدَادًا لِكَلِمَاتِ رَبِّي لَنَفِدَ الْبَحْرُ) ويبدو واضحا أن أهل مكة - الذين لم يكونوا أهل علم - قد استعانوا باليهود أهل العلم؛ فلما ردّ الله على سؤال أهل مكة جهّل من حرضوهم على السؤال أيضاً، وهو ردّ مناسب
¥