لهذه القضية المركبة؛ إذ فيه إفحام للطرفين، ومعلوم أن سورة الكهف التي نزل فيها الرد على رد اليهود قد نزلت بمكة؛ فلا يتصوَّر أن تكون آية الروح وما صاحبها من أحداث بالمدينة قد كانت سبباً في نزول آية مكية.
وبذلك يتضح أن رواية سؤال اليهود للنبي صلى الله عليه وسلم عن الروح في المدينة بحضور ابن مسعود رواية صحيحة؛ ولكنها لم تكن سبباً لنزول هذه الآية المكية بحال.
سورة مريم:
ذهب السيوطي إلى أن سورة مريم المكية استثني منها آية السجدة أي: أن آية السجدة في سورة مريم مدنية، وهذا فيه نظر للآتي:
- كون آية السجدة في سورة مريم مدنية هو قول مقاتل وآية السجدة المقصودة هي: (أُوْلَئِكَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِم مِّنَ النَّبِيِّينَ مِن ذُرِّيَّةِ آدَمَ وَمِمَّنْ حَمَلْنَا مَعَ نُوحٍ وَمِن ذُرِّيَّةِ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْرَائِيلَ وَمِمَّنْ هَدَيْنَا وَاجْتَبَيْنَا إِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُ الرَّحْمَن خَرُّوا سُجَّدًا وَبُكِيًّا) وقد بدأت الآية باسم الإشارة " أُوْلَئِكَ" وهي إشارة إلى الأنبياء المذكورين في السورة، ولا يمكن أن يكون الله قد أشار إليهم بالمدينة بعد ذكرهم بمكة؛ ولهذا يقول ابن عاشور عن قول مقاتل: (ولا يستقيم هذا القول لاتصال تلك الآية بالآيات قبلها إلا أن تكون ألحقت بها في النزول وهو بعيد).
- ذكر أبو حيان والألوسي أن مقاتل قد ذهب إلى أن آية السجدة مدنية لأنها نزلت بعد عودة مهاجرة المؤمنين إلى الحبشة وقول مقاتل لا دليل عليه، ولا معنى له ولو صح فرضا؛ إذ من المعلوم أن المهاجرين قد عادوا إلى الحبشة مرتين كليهما في الفترة المكية قبل هجرة النبي صلى الله عليه وسلم إلى المدينة، ومعلوم أن جعفر بن أبي طالب قد قرأ على النجاشي هذه السورة كما هو ثابت، وقد راجع الباحث تفسير مقاتل ولم يجده ذكر هذا السبب في تفسيره للآية وإنما قال: (نزلت في مؤمني أهل التوراة عبد الله بن سلام وأصحابه) وهذا أيضا فيه نظر لأن الآية مكية نزلت قبل إسلام عبد الله بن سلام من ناحية ثم إن هذا الوصف كان للأنبياء المذكورين لا لغيرهم من ناحية أخرى.
سورة طه:
ذهب السيوطي إلى أن سورة طه استثني منها (فَاصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ) ويقصد أن سورة طه مكية إلا هذه الآية فهي مدنية، وهذا فيه نظر للآتي:
- لعل الذي حمل الذين قالوا بمدنية هذه الآية على هذا القول - هو بقية الآية: (فَاصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ غُرُوبِهَا وَمِنْ آنَاء اللَّيْلِ فَسَبِّحْ وَأَطْرَافَ النَّهَارِ لَعَلَّكَ تَرْضَى) وهي الصلوات المفروضة؛ ويدل على ذلك السياق: (وَأْمُرْ أَهْلَكَ)، والصلوات المذكورة هي: الصبح قبل طلوع الشمس والعصر قبل غروبها وآناء الليل العشاء وصلاة الظهر والمغرب أطراف النهار.
- صحيح أنه بالمعراج - أي قبل الهجرة بسنة - فرض الله على الأمة خمسين صلاة ثم خففت كما جاء في الروايات الصحيحة؛ لكن ذلك لم يكن ابتداء للصلاة وإلا لزم منه أن النبي صلى الله عليه وسلم والمسلمين لم يكونوا يصلون؛ وهذا غير صحيح، وقد جاء في سورة هود المكية (وَأَقِمِ الصَّلاَةَ طَرَفَيِ النَّهَارِ وَزُلَفًا مِّنَ اللَّيْلِ إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ ذَلِكَ ذِكْرَى لِلذَّاكِرِينَ) وجاء في الإسراء المكية (أَقِمِ الصَّلاَةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ إِلَى غَسَقِ اللَّيْلِ وَقُرْآنَ الْفَجْرِ إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كَانَ مَشْهُودًا) وفي النمل المكية وصف المؤمنين بأنهم (الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُم بِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ) وفي العنكبوت المكية: (وَأَقِمِ الصَّلَاةَ إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاء وَالْمُنكَرِ) وفي الروم المكية: (مُنِيبِينَ إِلَيْهِ وَاتَّقُوهُ وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَلَا تَكُونُوا مِنَ الْمُشْرِكِينَ)، وسورة المزمل التي هي من أوائل السور نزولا فيها قوله (فَاقْرَؤُوا مَا تَيَسَّرَ مِنْهُ وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ) بل وفي سورة العلق التي هي أول سورة نزلت قوله (عَبْدًا إِذَا صَلَّى)، ولهذا كان حديث المعراج لبيان رحمة الله على الأمة وليس لفرض الصلاة ابتداء
¥