يقول سيد قطب رحمه الله تعقيبا على تلك الآيات: "كان قد تبين من الواقع العملي مرحلةً بعد مرحلة، وتجربةً بعد تجربة، أنه لا يمكن التعايش بين منهجين للحياة بينهما هذا الاختلاف الجذري العميق، البعيد المدى، الشامل لكل جزئية من جزئيات الاعتقاد والتصور، والخلق والسلوك، والتنظيم الاجتماعي والاقتصادي والسياسي والإنساني، وهو الاختلاف الذي لا بد أن ينشأ من اختلاف الاعتقاد والتصور: منهجين للحياة أحدهما يقوم على عبودية العباد لله وحده بلا شريك، والآخر يقوم على عبودية البشر للبشر، وللآلهة المدَّعاة، وللأرباب المتفرقة. ثم يقع بينهما التصادم في كل خطوة من خطوات الحياة لأن كل خطوة من خطوات الحياة في أحد المنهجين لا بد أن تكون مختلفة مع الأخرى ومتصادمة معها تماما في مثل هذين المنهجين، وفي مثل هذين النظامين. إنها لم تكن فلتة عارضة أن تقف قريش تلك الوقفة العنيدة لدعوة أنْ "لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله" في مكة ولا أن تحاربها هذه الحرب الجائرة في المدينة.

ولم تكن فلتة عارضة أن يقف اليهود في المدينة كذلك لهذه الحركة وأن يجمعهم مع المشركين معسكر واحد، وهم من أهل الكتاب، وأن يؤلب اليهودُ وتؤلب قريشٌ قبائلَ العرب في الجزيرة في غزوة الأحزاب لاستئصال شأفة ذلك الخطر الذي يتهدد الجميع بمجرد قيام الدولة في المدينة على أساس هذه العقيدة، وإقامة نظامها وفق ذلك المنهج الرباني المتفرد! وكذلك سنعلم بعد قليل أنها لم تكن فلتة عابرة أن يقف النصارى، وهم من أهل الكتاب كذلك، لهذه الدعوة ولهذه الحركة، سواء في اليمن أم في الشام أم فيما وراء اليمن ووراء الشام إلى آخر الزمان! إنها طبائع الأشياء. إنها أولا طبيعة المنهج الإسلامي التي يعرفها جيدا ويستشعرها بالفطرة أصحاب المناهج الأخرى! طبيعة الإصرار على إقامة مملكة الله في الأرض، وإخراج الناس كافة من عبادة العباد إلى عبادة الله وحده، وتحطيم الحواجز المادية التي تحول بين "الناس كافة" وبين حرية الاختيار الحقيقية. ثم إنها ثانيا طبيعة التعارض بين منهجين للحياة لا التقاء بينهما في كبيرة ولا صغيرة، وحرص أصحاب المناهج الأرضية على سحق المنهج الرباني الذي يتهدد وجودهم ومناهجهم وأوضاعهم قبل أن يسحقهم! فهي حتمية لا اختيار فيها في الحقيقة لهؤلاء ولا هؤلاء!

وكانت هذه الحتمية تفعل فعلها على مدى الزمن وعلى مدى التجارب، وتتجلى في صور شتى تؤكد وتعمق ضرورة الخطوة النهائية الأخيرة التي أعلنت في هذه السورة. ولم تكن الأسباب القريبة المباشرة التي تذكرها بعض الروايات إلا حلقات في سلسلة طويلة ممتدة على مدى السيرة النبوية الشريفة، وعلى مدى الحركة الإسلامية منذ أيامها الأولى. وبهذه السعة في النظرة إلى الجذور الأصيلة للموقف وإلى تحركاته المستمرة يمكن فهم هذه الخطوة الأخيرة. وذلك مع عدم إغفال الأسباب القريبة المباشرة، لأنها بدورها لا تعدو أن تكون حلقات في تلك السلسلة الطويلة ... وذكر الإمام الطبري بعد استعراضه الأقوال في تفسير مطلع السورة: وأَوْلَى الأقوال في ذلك بالصواب قول من قال: لأجل الذي جعله الله لأهل العهد من المشركين وأذن لهم بالسياحة فيه بقوله: "فسيحوا في الأرض أربعة أشهر" إنما هو لأهل العهد الذين ظاهروا على رسول الله صلى الله عليه وسلم ونقضوا عهدهم قبل انقضاء مدته. فأما الذين لم ينقضوا عهدهم ولم يظاهروا عليه فإن الله جل ثناؤه أمر نبيه صلى الله عليه وسلم بإتمام العهد بينه وبينهم إلى مدته بقوله: "إلا الذين عاهدتم من المشركين ثم لم ينقصوكم شيئا ولم يظاهروا عليكم أحدا فأتموا إليهم عهدهم إلى مدتهم، إن الله يحب المتقين" ... ".

وفى "تفسير المنار" نقرأ للشيخ رشيد رضا غفر الله له: "من المشهور القطعي الذي لا خلاف فيه أن الله تعالى بعث محمدا رسوله وخاتم النبيين بالإسلام الذي أكمل به الدين، وجعل آيته الكبرى هذا القرآن المعجز للبشر من وجوه كثيرة ذكرنا كلياتها في تفسير (2: 3 ص190 ص228 ج 1)، وأقام بناء الدعوة إليه على أساس البراهين العقلية والعلمية المقنعة والملزمة، ومنع الإكراه فيه والحمل عليه بالقوة، كما بيناه في تفسير (2: 256 ص26 ص40 ج 3)، فقاومه المشركون، وفتنوا المؤمنين بالتعذيب والاضطهاد لصدهم عنه، وصدوه (ص) عن تبليغه للناس بالقوة. ولم يكن أحد ممن اتبعه يأمن

¥

طور بواسطة نورين ميديا © 2015