ومن هذه الآيات يتبين لنا أن الإعلان الموجود فى النص خاص بالمشركين الذين كانت بينهم وبين المسلمين عهود، وليس عاما لكل المشركين. ولهذا دلالته. فلو كان الأمر مبدأ إسلاميا فى قتل المخالفين ما لم يُسْلِموا لما خصص القرآن الكلام للمشركين الذين كانت بينهم وبين المسلمين معاهدات. ورغم هذا أيضا فلم يسارع الإسلام إلى الأمر بقتل أولئك المشركين، بل أعطاهم مهلة أربعة أشهر يستطيعون التحرك فيها بكل حرية قبل أن يؤاخَذوا. ولو كان الأمر أمر مبدإ بإكراه غير المؤمنين بمحمد على الدخول فى دينه أو يُقْتَلوا لما كان هناك معنى لإعطائهم تلك المهلة، إذ ما دام واجبا عليهم، شاؤُوا أم أَبَوْا، أن يعتنقوا الإسلام فخير البر عاجله. وليست هناك أى ضرورة، بل ليس هناك أى معنى، لإمهالهم هذه الشهور الأربعة. أليس كذلك؟

ثم إن الآية السابقة على الآية الخامسة تقول: "إِلاَّ الَّذِينَ عَاهَدْتُمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ ثُمَّ لَمْ يَنْقُصُوكُمْ شَيْئًا وَلَمْ يُظَاهِرُوا عَلَيْكُمْ أَحَدًا فَأَتِمُّوا إِلَيْهِمْ عَهْدَهُمْ إِلَى مُدَّتِهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ (4) ". أى أن الإسلام لا يسوى بين المشركين جميعا عاطلا مع باطل، بل يقول إن من كانت بينهم وبين المسلمين عهود فوَفَّوْا بها ولم ينقضوها فلا بد من إتمام عهودهم إلى نهاية مدتها. ومعنى هذا بكل وضوح أن المشركين الأولين الذين حكم القرآن بقتلهم هم طائفة أخرى لم تحترم العهود بل نقضتها وخاست فيها. والوقع أن تلك الطائفة من المشركين قد فجرت فى سلوكها تجاه المسلمين فكانوا يقتلون كل من ساقته الأقدار إلى قبضة أيديهم دون أن يَرْعَوْا فيهم إِلاًّ ولا ذمة، كما كانوا يمدون أيديهم بالتعاون إلى من ليس بينهم وبين المسلمين عهود فيعينونهم عليهم ويحاربونهم معهم غادرين على هذا النحو الخسيس بالاتفاقيات التى كانت بينهم وبين الرسول وأصحابه. فهل كان على المسلمين أن يسكتوا على هذا الغدر وتلك الخيانة؟ لقد كان الإسلام أنبل من كل ما يتوقعه الإنسان، إذ رغم كل هذه الاستفزازات التى كان يرتكبها أولئك المجرمون فإنه لم يسارع بالمناداة بمعاملتهم نفس المعاملة التى يعاملون بها المسلمين، بل أعطاهم فترة إمهال: أربعة شهور كاملة. فأى نبل هذا؟ لكن على من تتلو مزاميرك يا داود؟ إنك لتتلوها على قوم أغبياء ذوى قلوبٍ عمياءَ وضمائرَ غُلْفٍ.

ولقد تكرر هذا التوضيح أكثر من مرة فى تلك الآيات: "كَيْفَ يَكُونُ لِلْمُشْرِكِينَ عَهْدٌ عِنْدَ اللَّهِ وَعِنْدَ رَسُولِهِ إِلاَّ الَّذِينَ عَاهَدْتُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ فَمَا اسْتَقَامُوا لَكُمْ فَاسْتَقِيمُوا لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ (7) "، "كَيْفَ وَإِنْ يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ لا يَرْقُبُوا فِيكُمْ إِلا وَلا ذِمَّةً يُرْضُونَكُمْ بِأَفْوَاهِهِمْ وَتَأْبَى قُلُوبُهُمْ وَأَكْثَرُهُمْ فَاسِقُونَ (8) "، "لا يَرْقُبُونَ فِي مُؤْمِنٍ إِلا وَلا ذِمَّةً وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُعْتَدُونَ (10) "، "وَإِنْ نَكَثُوا أَيْمَانَهُمْ مِنْ بَعْدِ عَهْدِهِمْ وَطَعَنُوا فِي دِينِكُمْ فَقَاتِلُوا أَئِمَّةَ الْكُفْرِ إِنَّهُمْ لا أَيْمَانَ لَهُمْ لَعَلَّهُمْ يَنْتَهُونَ (12) "، "أَلا تُقَاتِلُونَ قَوْمًا نَكَثُوا أَيْمَانَهُمْ وَهَمُّوا بِإِخْرَاجِ الرَّسُولِ وَهُمْ بَدَءُوكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ أَتَخْشَوْنَهُمْ فَاللَّهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشَوْهُ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (13) ". فماذا يريد الإنسان أكثر من هذا؟ أَلاَ إن هذا لكرمٌ بالغٌ لا نظير له فى أى مكان فى العالم؟ ومع هذا كله لم يحدث أن قتل المسلمون أحدا من المشركين الذين نزلت الآية فى حقهم. بل إنه فى فتح مكة بعد ذلك بقليل عفا الرسول عن مشركيها الذين طالموا أذاقوه الأذى وأنزلوا بالمسلمين العذاب وأخرجوهم من ديارهم وأموالهم.

¥

طور بواسطة نورين ميديا © 2015