أمّا القولُ الثّاني فأَرَى أَنَّه تَفْسِيْرٌ للتَّأْوِيْلِ السّابِقِ، إِذْ كَانَ كُفّارُ قُرَيْشٍ يُخْرِجُونَ أَهْلَ المَسْجِدِ الحَرَامِ مِن المُسْلِمِيْنَ، وهذا هو الصَدُّ عَن المَسْجِدِ الحَرَامِ، وهذا التَّأوِيْلُ يَتَّفِقُ مَع قَوْلِ الزّجّاجِ في تَفْسِيْرِهِ؛ إِذْ يَقُولُ: "والمَعْنى: وصَدٌّ عَنْ سَبِيلِ اللهِ وكُفْرٌ به وإِخْراجُ أَهْلِ المَسْجِدِ الحَرامِ منه،" فَإخْراجُ المُسْلِمِيْنَ من المَسْجِدِ صَدٌّ عن المَسْجِدِ، وعَنْ سَبِيْلِ اللهِ.

ورَوَى الطَّبَرِيُّ وغَيْرُه في مُنَاسَبَة الآيَةِ رِوَايَةً أُخْرى عَن ابْنِ عَبّاسٍ تُؤكّدُ هذا المَعْنى، فالمُشْرِكُونَ قَامُوا بِصَدِّ رَسُولِ اللهِ ورَدِّهِ عَن المَسْجِدِ الحَرَامِ في الشَّهْرِ الحَرَامِ أَوّلاً، ثُمَّ فَتَحَ اللهُ عَلى نَبِيِّه في العَامِ الّذي يَلِيْهِ في الشَّهْرِ الحَرَامِ، فَعَيَّرَ المُشْرِكُونَ المُسْلِمِيْنَ بِقِتَالِهِم في الشَّهْرِ الحَرَامِ، فَنَزَلَت الآيَةُ، قَالَ الطّبَرِيُّ: "حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بنُ سَعْدٍ، قَالَ: ثَنَا أَبِي، قَالَ: ثَنَا عَمِّي، قَالَ: ثَنَا أَبِي عَنْ أَبِيْهِ عَن ابْنِ عَبّاسٍ، قَوْلُهُ: ?يَسْأَلونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرَامِ قِتَالٍ فِيهِ قُلْ قِتَالٌ فِيهِ كَبِيرٌ? وذلكَ أَنّ المُشْرِكِيْنَ صَدُّوا رَسُولَ اللهِ، وَرَدُّوهُ عَنْ المَسْجِدِ الحَرَامِ في شَهْرٍ حَرَامٍ، فَفَتَحَ اللهُ عَلَى نَبِيِّهِ في شَهْرٍ حَرَامٍ مِن العَامِ المُقْبِلِ، فَعَابَ المُشْرِكُونَ عَلَى رَسُولِ اللهِ القِتَالَ في شَهْرٍ حَرَامٍ فَقَالَ اللهُ جَلَّ وعَزَّ: وَصَدّ عَن سَبِيلِ اللهِ وَكُفْرٌ بِهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَإِخْرَاجُ أَهْلِهِ مِنْهُ أَكْبَرُ عِندَ اللهِ مِن القَتْلِ فيهِ."

وفي تَوْجِيْهِ هذا الموْضِعِ آرَاءٌ نَحْوِيَّةٌ أُخْرَى لَمْ أَجِدْ لَها دَلِيْلاً مِن الرِّوَايَاتِ عِنْدَ أَهْلِ التّفْسِيْرِ، ولَمْ يَقْبَلْها المَعْنى الّذي تُشِيْرُ إِلَيْهِ الآيَاتِ، وأَرَى أَنَّ المَعَانِي الّتي تَقْبَلُها الآي قَدْ جَاءَتْ في تَوْجِيْهاتِ أَهْلِ التَّفْسِيْرِ بالمَأثُورِ، ثُمّ اطّلَعَ عَلَيْها عُلَماءُ النَّحْوِ، واسْتَفَادُوا مِنْها في تَوْجِيْهِ الآيَاتِ تَوْجِيْهًا نَحْوِيًّا، ثُمَّ إِنَّ بَعْضَ النُّحَاةِ رَأَى أَنْ يَسِيْرَ مَعْتَمِدًا عَلَى القَاعِدِةِ النَّحْوِيَّةِ بَعِيْدًا عَنْ تَوْجِيْهَاتِ أَهْلِ التّفْسِيْرِ، فَرَفَضَهُ المَعْنى، والمَقْصُودُ هنا أَنَّ أَيَّ تَوْجِيْهٍ نَحْوِيٍّ اعْتَمَدَ فِيْهِ عَلَى القَاعِدَة النَّحْوِيَّةِ دُونَ المَعْنى تَوْجِيْهٌ مَرْفُوضٌ.

مِنْ هذه الآرَاءِ رَأْيٌ للعُكْبُرِيِّ حَاوَلَ فِيْهِ أَنْ يَهْرُبَ مِنْ المَحْظُورِ، وهو الفَصْلُ بَيْنَ الصّلَةِ والمَوْصُولِ المَوْجُودُ في الرَّأيِ السّابِقِ، فَرَأَى تَقْديرَ فِعْلٍ يَدُلُّ عَلَيه: (وصَدٌّ) المَصدَرُ، تَقْدِيْرُهُ: ويَصُدّونَ عن المَسْجِدِ، فهذا هُرُوبٌ مِن المَحْظور المَوْجُودِ في الرّأيِ السّابِقِ، إِذ المَعْنى هو هو، فهاهنا يَلْجَأ إلى التّقدير حتّى يَبْتَعِدَ عن مَحْظورِ القَواعِدِ النّحْويّةِ، قالَ السّمينُ الحَلبي في رَدّه "وهذا غيرُ جَيّدٍ؛ لأَنّه يَلْزَمُ منه حَذْفُ حَرْفِ الجَرِّ وإبقاءُ عَمَلِه، ولا يجوزُ ذلك."

ومِنْها رَأْيٌ للفَرّاءِ، قَالَ في مَعَانِيْهِ: "والمَسْجِدُ الحَرَامُ مَخْفُوضٌ بِقَولِهِ: يَسْأَلونَكَ عَن القِتَالِ وعن المَسْجِدِ،" وقَدْ رُدَّ هذا الرّأيُ من جِهَةِ المَعْنى، فالمَعنى هنا يُشيرُ إلى أَنَّهم سَأَلوا عن القِتالِ في الشَّهر الحَرامِ وعن المَسْجدِ الحَرامِ، وهذا تَفسِيْرٌ غَيْرُ صَحِيْحٍ، قَالَ أَبُو حَيَّانَ: "وضُعِّفَ هذا بِأَنَّ القَوْمَ لَمْ يَسْأَلُوا عَن الشَّهْرِ الحَرَامِ، إِذْ لَمْ يَشُكّوا في تَعْظِيمِهِ، وإِنَّمَا سَأَلُوا عَن القِتَالِ في الشَّهْرِ الحَرَامِ؛ لأَنَّه وَقَعَ مِنْهُم، ولَمْ يَشْعُرُوا بِدُخُولِهِ، فَخَافُوا مِن الإثْمِ، وكَانَ المُشْرِكُون عَيَّرُوهُم بِذلِكَ."

¥

طور بواسطة نورين ميديا © 2015