وهُنَاكَ رَأْيٌ رَابِعٌ في هذه المَسْأَلَةِ بَعِيْدٌ عَن المَعْنى، وهو ما نُسِبَ إلى الفَرّاءِ وليسَ له، وهو عَطْفُ المَسْجِدِ عَلى الضَّمِيْرِ في: (وكُفْرٌ به)، والتَّقْدِيرُ: وكُفرٌ باللهِ وكُفْرٌ بالمَسْجِدِ الحَرامِ، ولا أَدْري ماذا يَعْنِي الكُفْرُ بالمَسْجِدِ الحَرامِ؟ فكُفّارُ قُريش كانوا يُعَظّمون المسجِدَ الحَرامَ قبل وُجُودِ المُسْلِمِيْنَ، إِلاّ أَنْ يُرادَ الحَجُّ المَفْرُوضُ عَلَى المُسْلِمِيْن إلى البَيْتِ الحَرَامِ، وهذا خِلافُ الظّاهِرِ، وهو اخْتِيارُ أَبي حَيّانَ.

7. دَلالَةُ (أَنّى):

قَوْلُهُ تَعَالَى: ?نِسَاؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ وَقَدِّمُوا لأَنْفُسِكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ مُلاقُوهُ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ.? (البقرة:223)

للنّحَاةِ والمُفَسّرِيْنَ في مَعْنى (أَنّى شِئْتُم) في الآيَةِ الكَرِيْمَةِ عِدّةُ آراءٍ، وتُعَدُّ هذه الآرَاءُ مِثالاً وَاضِحًا لأَثَرِ أَهْلِ التَّأوِيْلِ في التَّوْجِيْهِ النَّحْوِيِّ، فالآرَاءُ النَّحْوِيّةُ كَثِيْرَةٌ، وكُلُّ رَأْيٍ من هذه الآرَاءِ يُقَابِلُهُ رَأْيٌ عِنْدَ أَهْلِ التَّفْسِيْرِ بِالمَأْثُورِ، وهذا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ التَّوْجِيْهَ النَّحْوِيِّ قد اعْتَمَدَ عَلى تَوْجِيْهِ أَهْلِ التَّفْسِيْرِ بِالمَأثُورِ.

نَقَلَ الطَّبَرِيُّ تَوْجِيْهاتٍ عِدَّةً لأهْلِ التَّفْسِيْرِ بِالمَأثُورِ في مَعْنى ?أَنَّى شِئْتُمْ? هي:

الأَوّلُ: أَنْ تَكُونَ (أَنّى) بِمَعْنى (كَيْفَ)، ونَقَلَ في ذلِكَ عَشْرَةَ نُصُوصٍ تَدُلُّ عَلَى هذا المَعْنى، وهذه النُّصُوصُ مَرْوِيّةٌ عن ابنِ عَبّاسٍ، وعِكرِمَةَ، ومُجَاهِدٍ، وأبَيِّ بن كَعْبٍ، ومُرّةَ الهَمَدَانِيِّ، وقَتَادَةَ، والسّدِيِّ، وعَبْدِاللهِ بن عَلِيٍّ.

ومنْ ذلِكَ قَوْلُ الطّبَرِيِّ: "حَدَّثَنَا أَبُوكُرَيْبٍ, قَالَ: حَدَّثَنا ابْنُ عَطِيَّةَ, قَالَ: حَدَّثَنَا شُرَيْكٌ, عَنْ عَطَاءٍ, عَنْ سَعِيْدِ بنِ جُبَيْرٍ, عَن ابْنِ عَبّاسٍ: ?فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ? قَالَ: يَأْتِيْها كَيْفَ شَاءَ مَا لَمْ يَكُنْ يَأْتِيْها فِي دُبُرِها أو فِي الحَيْضِ."

وهذا رَأيُ كَثِيْرٍ مِن النُّحَاةِ، فهو رَأْيُ الفَرّاءِ، وابنِ قُتَيْبَةَ، والبَاقُولِي، والشَّرِيْفِ الكُوفِيِّ، والزّجّاجِ، قَال: "أَيْ: كَيْفَ شِئتُم، أَي: ائتُوا مَوضِعَ حَرْثِكُم كَيْفَ شئْتُم،" وأَرى أَنَّ هذا هو مَا ذَكَرَه ابْنَ عَبّاسٍ عَيْنُه، لا فَرْقَ بَيْنَهُما.

ومِمّا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ التَوْجِيْهَ النَّحْوِيَّ قد اعْتَمَدَ عَلى تَفْسِيْرِ أَهْلِ التَّفْسِيْرِ بِالمَأْثُورِ أَنَّ الفَرّاءَ قَدْ نَقَلَ كَلامًا لابْنِ عَبّاسٍ في هذه الآيَةِ مُسْتَدِلاًّ بِه، وأَخَذَ بِهِ في تفسِيْرِهِ، قَالَ: "أَيْ: كَيْفَ شِئْتُم، حَدَّثَنا مُحَمّدُ بنُ الجَهْمِ، قَالَ: حَدَّثْنا الفَرّاءُ، قَالَ: حَدَّثَنِي شَيْخٌ عَنْ مَيْمُونِ بِنِ مَهْرَانَ، قَالَ: قُلْتُ لابْنِ عَبّاسٍ: إِنَّ اليَهُودَ تَزْعُمُ أنّ الرَّجُلَ إِذا أَتى امْرَأَتَهُ مِنْ وَرَائِها في قُبُلِها خَرَجَ الوَلَدُ أَحْولَ، قَالَ: فَقَالَ ابْنُ عَبّاسٍ: كذَبَتْ يَهُودُ، ?نِسَاؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ? يَقُولُ: ايْتِ الفَرْجَ مِن حَيْثُ شِئْتَ،" وقَدْ فَهِمَ الفَرّاءُ مِن قَوْلِ ابْنِ عَبّاسٍ مَعْنى (كَيْفَ)، وقَوْلُه يُشِيْرُ إِلى مَعْنى آخَرَ، وهو (مِن حَيْثُ)، أو (أَيّ وَجْهٍ).

الثّانِي: أَنْ تَكُونَ بِمَعْنى (مِن حَيْثُ شِئْتُم)، أَوْ (مِنْ أَيّ وَجْهٍ)، وقَدْ نَقَلَ الطَّبَرِيُّ في هذا المَعْنى خَمْسَةَ نُصُوصٍ، مِنْها قَوْلُهُ: "حَدَّثَنَا سَهْلُ بنُ مُوسَى الرَّازِيّ, قَالَ: حَدّثَنا ابنُ أَبِي فُدَيْكٍ, عَنْ إبْرَاهِيْمَ بنِ إسْمَاعِيْلَ بنِ أَبِي حَبِيْبَةَ الأَشْهَلِ, عَنْ دَاوُودَ بنِ الحُصَيْنِ, عَنْ عِكْرِمَةَ, عَن ابنِ عَبّاسٍ: أَنَّهُ كَانَ يَكْرَهُ أَنْ تُؤْتَى المَرْأَةُ فِي دُبُرِهَا، ويَقُولُ: إِنَّما الحَرْثُ مِن القُبُلِ الّذي يَكُونُ مِنْه النَّسْلُ والحَيْضُ، ويَنْهَى عَن إِتْيَانِ المَرْأَةِ فِي دُبُرِها، ويَقُولُ: إِنَّما نَزَلَتْ

¥

طور بواسطة نورين ميديا © 2015