وهذا الرّأيُ هو مَا ذَكَرَهُ أَهْلُ التّفْسِيْرِ بِالمَأثُورِ عَيْنُهُ، فالتَّقْدِيْرُ عِنْدَ الكُوفِيّيْنَ: يَسْأَلُونَكَ عن الشَّهْرِ الحَرَامِ عَن قِتَالٍ، وهذا مَا جَاءَ في تَفْسِيْرِهِم وقِرَاءَتِهِم، وقَدْ جَاءَ عَنْ علماء البَصْرَةِ أَنَّ المَقْصُودَ بِالسُّؤَالِ هو القِتَالُ، فيَكُونُ الرَّأيَانِ مَتَّفِقَيْنِ في المَعْنى.

وثَانِيْها الجَرُّ عَلَى الجِوَارِ، وهو رَأيُ أَبِي عُبَيْدَةَ مُعَمّر بن المُثَنّى، قَالَ: "مَجْرُورٌ بِالجِوَارِ لِمَا كَانَ بَعْدهُ،" قَالَ النّحّاس: "لا يَجُوزُ أَنْ يُعْرَبَ شَيءٌ عَلَى الجِوَارِ في كِتَابِ اللهِ عَزَّ وَجَلَّ، ولا في شَيءٍ مِن الكَلامِ، وإِنّما الجِوَارُ غَلَطٌ، وإِنّما وَقَعَ في شَيءٍ شَاذٍّ، وهو قَوْلِهُم: "هذا جُحْرُ ضَبٍّ خَرِبٍ."

الثّانِي: تَوْجِيْهُ قَوْلِه: ?وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ.?

رَوَى الطَّبَرِيُّ لأَهْلِ التَّأْوِيْلِ في تَفْسِيْرِ هذا الموضع قولين هما:

الأوّلُ: قَالَ الطَّبَرِيُّ: "حَدَّثَنا القَاسِمُ, قَالَ: حَدَّثَنا الحُسَيْنُ, قَالَ: ثَنَا حَجَّاجٌ, عَن ابْنِ جُرَيْجٍ, قَالَ: قَالَ مُجَاهِدٌ: ?قُلْ قِتَالٌ فِيهِ كَبِيرٌ وَصَدٌّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَكُفْرٌ بِهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ? قَالَ: يَُقولُ: صَدٌّ عَن المَسْجِدِ الحَرَامِ وإخْرَاجُ أَهْلِهِ مِنْهُ, فَكُلُّ هذا أَكْبَرُ مِنْ قَتْلِ ابْنِ الحَضْرَمِيِّ, والفِتْنَةُ أَكْبَرُ مِن القَتْلِ كُفْرٌ بِاللهِ وعِبَادَةُ الأَوْثَانِ أَكْبَرُ مِنْ هذا كُلِّهِ،" وهذا تَوْجِيْهُ ابْنِ عَبّاسٍ أَيْضًا؛ إِذ قَالَ في تَوْجِيْهِ النَّصِّ: "وصَدُّ النَّاسِ عن المَسْجِدِ الحَرَامِ."

الثّانِي: قَالَ: "حَدَّثْتُ عَن الحُسَيْنِ بنِ الفَرَجِ, قَالَ: سَمِعْتُ أَبَا مُعَاذٍ الفَضْلَ بنَ خَالِدٍ, قَالَ: أَخْبَرَنا عُبَيْدُ بنُ سُلَيْمانَ البَاهِلِيِّ, قَالَ: سَمِعْتُ الضَّحَّاكَ بنَ مُزَاحِمٍ يَقُولُ فِي قَوْلِهِ: ?يَسْأَلونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرَامِ قِتَالٍ فِيهِ قُلْ قِتَالٌ فِيهِ كَبِيرٌ? كَانَ أَصْحَابُ مُحَمَّدٍ صَلّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَتَلُوا ابْنَ الحَضْرَمِيِّ فِي الشَّهْرِ الحَرَامِ, فَعَيَّرَ المُشْرِكُونَ المُسْلِمِيْنَ بِذلِكَ, فَقَالَ اللهُ: قِتَالٌ فِي الشَّهْرِ الحَرَامِ كَبِيْرٌ, وأَكْبَرُ مِنْ ذلك صَدٌّ عَنْ سَبِيْلِ اللهِ وكُفْرٌ بِهِ, وإِخْرَاجُ أَهْلِ المَسْجِدِ الحَرَامِ مِن المَسْجِدِ الحَرَامِ."

يُفْهَمُ مِنْ النّصِّ الأوّل أَنَّ (المَسْجِدَ) مُتَعَلِّقٌ بـ (صَدٌّ)، فالصَّدُّ في الآيَةِ وقَعَ عَنْ سَبِيْلِ اللهِ وعَنْ المَسْجِدِ الحَرَامِ، فالمَسْجِدُ الحَرَامُ في هذا التَّأوِيْلِ مَعْطُوفٌ عَلَى (سَبِيْلِ اللهِ)، وهذا رَأْيُ الأَخْفَشِ، قَالَ في مَعَانِيْهِ: "وصَدٌّ عَن المَسْجِدِ الحَرَامِ"، وأَخَذَ بِهذا الرّأيِ النَّحَاسُ، والزَّمَخْشَرِيُّ، وابْنُ عَطِيَّةَ، وأَرَى أَنَّ تَأْوِيْلَ الأَخْفَشِ لا يَخْتَلِفُ عَن تَأْوِيْلِ ابْنِ عَبَّاسٍ ومُجَاهدٍ، ولا يَخْتَلِفُ أَيْضًا عَنْ قَوْلِهِ تَعَالَى: ?هُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ،? (الفتح: 25) وهذه آيَةٌ تُؤكِّدُ تَوْجِيْهَ الأَخْفَشِ لِقَوْلِهِ: (المَسْجِدِ الحَرَامِ)، وهم قد اسْتَدَلُّوا بِهذه الآيَةِ في تَوْجِيهِ هذا الرَّأيِ، وهذا يَدُلُّ عَلى تَأثُّرِهِم بالتّفْسِيْرِ بِالمَأثُورِ.

ورَدَّ العُكْبُريُّ، وأبُو حيّانَ، والسّمِيْنُ الحَلَبِيُّ هذا التَّوْجِيْهَ مُعْتَمِدِيْنَ عَلَى قَوَاعِدَ نَحْوَيَّةٍ، ولَمْ يَعْتَمِدُا فيها عَلَى المَعْنى، قَالَ في التّبْيَانِ: "وهذا لا يَجُوزُ؛ لأَنَّه مَعْمُولُ المَصْدَرِ، والعَطْفُ بِقَوْلِهِ: (وكُفْرٌ بِه) يَفْرُقُ بَيْنَ الصِّلَةِ والمَوْصُولِ،" فالمَانِعُ عِنْدَهُم قَاعِدَةٌ تَقُولُ: لا يَجُوزُ الفَصْلُ بَيْنَ الصِّلَةِ والمَوْصُولِ، فَجَعَلُوا العَلاقَةَ بَيْنَ المَصْدَرِ ومَعْمُولِهِ كَالعَلاقَةِ بَيْنِ (الّذي) ومَوْصُولِه.

¥

طور بواسطة نورين ميديا © 2015