هذه هي الآرَاءُ النَّحْوِيَّةُ في هذه المَسْأَلَةِ، وأَقْوَالُ المُفَسِّرِيْنَ فِيْها، ولا يُعَوّلُ فيها إِلاّ عَلَى الرَّأْيَيْنِ الأَوْلِ والثّانِي، ويَظْهَرُ فِيْهِما مَدَى العَلاقَةِ بَيْنَ تَوْجِيْهَاتِ النُّحَاةِ وأَقْوالِ أَهْلِ التَّفْسِيْرِ بِالمَأثُورِ، فَهيَ تَرْجَمَةٌ لأَقْوَالِهِم، إِضَافَةً إِلى أَنَّ أَهْلَ التَّفْسِيْرِ بِالمَأثُورِ كَانُوا مُعَاصِرِيْنَ لِوضْعِ اللَّبِنَاتِ الأُولَى للنَّحْوِ، فَلَيْسَ عَجِيْبًا أَنْ تَكُونَ لَهُم مُشَارَكَةٌ في وَضْعِ هذه اللّبِنَاتِ.

6. البَدَل والعَطْف:

قوله تعالى: ?يَسْأَلونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرَامِ قِتَالٍ فِيهِ قُلْ قِتَالٌ فِيهِ كَبِيرٌ وَصَدٌّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَكُفْرٌ بِهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَإِخْرَاجُ أَهْلِهِ مِنْهُ أَكْبَرُ عِنْدَ اللَّهِ وَالْفِتْنَةُ أَكْبَرُ مِنَ الْقَتْلِ وَلا يَزَالُونَ يُقَاتِلُونَكُمْ حَتَّى يَرُدُّوكُمْ عَنْ دِينِكُمْ إِنِ اسْتَطَاعُوا وَمَنْ يَرْتَدِدْ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَيَمُتْ وَهُوَ كَافِرٌ فَأُولَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ.? (البقرة: 217)

يُمْكِنُ النَّظَرُ في أَثَرِ أَهْلِ التَّفْسِيْرِ بِالمَأثُورِ في التَّوْجِيْهِ النَّحْوِيِّ إِلى أَكْثَرِ مِنْ مَوْضِعٍ في هذه الآيَةِ الكَرِيْمَةِ، وسَأَتَنَاوَلُ مِنْها مَوْضِعَيْنِ، هُما:

الأَوّلُ: تَوْجِيْهُ قَوْلِه: "قِتَالٍ فِيْهِ."

رَوَى لَنا الطّبَرِيُّ في جَامِعِهِ تَفْسِيْرًا لِقَوْلِهِ: ?قِتَالٍ فِيهِ? قَالَ: "وقَدْ حَدَّثْتُ عَنْ عَمّارِ بنِ الحَسَنِ، قَالَ: ثَنَا ابنُ أَبِي جَعْفَرٍ عَنْ أَبِيْهِ عَن الرّبِيْعِ قَوْلُهُ: ?يَسْأَلونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرَامِ قِتَالٍ فِيهِ،? قَالَ: يَقُولُ: يَسْأَلُونَكَ عَنْ قِتَالٍ فِيْهِ،" وجَاءَ ذلِكَ في قِرَاءَةِ ابنِ مَسْعُودٍ، قَالَ في الدّرّ المَنْثُور: "وأَخْرَجَ ابنُ أَبِي دَاوُدَ في المَصَاحِفِ عَن الأَعْمَشِ، قَالَ: في قِرَاءَةِ عَبْدِ الله: يَسْأَلُونَكَ عَنِ الشّهْرِ الْحَرَامِ عن قِتَالٍ فِيهِ."

ورَوَى ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ ذلِكَ عن عُرْوةَ بن الزُّبَيْرِ، قَالَ: "حَدَّثَنا مُحَمّدُ بنُ العَبّاسِ مَوْلَى بَنِي هَاشِمٍ، ثَنَا مُحَمَّدُ بنُ عَمْرو زُنَيْج، ثَنَا سَلَمَةُ، قَالَ مُحَمّدُ بنُ إسْحاقَ فِيْما حَدَّثَنِي يَزِيْدُ بنُ رُومَانَ، والزُّهْرِيُّ عَنْ عُرْوَةَ بنِ الزُّبَيْرِ، قَالَ: أَنْزَلَ اللهُ عَلَى رَسُولِهِ: ?يَسْأَلونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرَامِ قِتَالٍ فِيهِ،? أَيْ: عَنْ قِتَالٍ فِيْهِ، وَرُويَ عَنْ عِكْرِمَةَ والرَّبِيْعِ بنِ أَنَسِ نَحْوُ ذلكَ."

يُلاحَظُ في هذه الرِّوَايَةِ، وقِرَاءَةِ ابْنِ مَسْعُودٍ أَنّ المَقْصُودَ مِن السُّؤَالِ هو القِتَالُ لا الشَّهْرُ، ولَمْ يَخْتَلِف النُّحَاةُ عن المفسِّرِيْنَ في هذه الرُّؤيَةِ، قَالَ ابْنُ شُقَيْرِ في تَوْجِيْهِهِ للآيَةِ: "كَأَنَّهُ قَالَ: يَسْأَلُونَكَ عَن الشَّهْرِ الحَرَامِ عَنْ قِتَالٍ فِيْهِ،" فالتَّأوِيْلُ النَّحْوِيُّ لِهذه الآيَةِ عِنْدَ ابْنِ شُقَيْرِ لا يَخْتَلِفُ عَن تَأْوِيْلِ الرَّبِيْع، وقِرَاءَةِ ابْنِ مَسْعُودٍ، والمَعْنى عِنْدَ النُّحَاةِ هو المَعْنى الّّذي قَصَدُوهُ مِن أَنَّ السُّؤالَ عَن القِتَالِ، قَالَ المُبَرّدُ: "لأَنَّ المَسْأَلَةَ وَقَعَت عَن القِتَالِ،" وقالَ ابنُ السَّرَاجِ: "لأَنَّ المَسْأَلَةَ في المَعْنَى عَن القِتَالِ في الشَّهْرِ الحَرَامِ."

وللنُّحَاةِ في إِعْرَابِهِ رَأْيَانِ:

أَوّلُها: الجَرُّ عَلَى البَدَلِيَّةِ، وقِيْلَ: هو مَخْفُوضُ عَلَى تَكْرِيْرِ العَامِلِ، وهو (عَنْ)، وهذا رَأْيُ الكُوفِيِّيْنَ، ولَيْسَ هذان رَأْيَيْنِ مُخْتَلِفَيْنِ، إِنّما هُما رَأْيٌ وَاحِدٌ، وذلك لأَنَّ البَدَلَ عِنْدَهُم عَلَى نِيَّةِ تَكْرِيْرِ العَامِلِ، قَالَ أَبُو حَيّانَ: "لا فَرْقَ بَيْنَ هذه الأَقْوَالِ، هِيَ كُلُّها تَرْجِعُ لِمَعْنًى وَاحِدٍ."

¥

طور بواسطة نورين ميديا © 2015