ومِمّا رَوَاهُ في تَفْسِيْرِ هذه الآيَةِ قَوْلُهُ: "حَدَّثَنا القَاسِمُ، قَالَ: ثَنا الحُسَيْنُ، قَالَ: حَدَّثَنِي حَجَّاجٌ عَن ابْنِ جُرَيْجَ: ?وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَ بَنِي إِسْرائيلَ لا تَعْبُدُونَ إِلا اللَّهَ،? قَالَ: المِيْثَاقُ الّذي أُخِذَ عَلَيْهِم في المَائِدَةِ." وإِذا ذَهَبْنا إِلى سُورَةِ المَائِدَةِ نَجِدُ أَنَّ المِيْثَاقَ قَوْلٌ أَمَرَ اللهُ عِيسى عَلَيْهِ السّلامُ أَنْ يَقُولَهُ لَهُم، وهو قَوْلُهُ تَعَالَى: ?مَا قُلْتُ لَهُمْ إِلا مَا أَمَرْتَنِي بِهِ أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ وَكُنْتُ عَلَيْهِمْ شَهِيداً مَا دُمْتُ فِيهِمْ.? (المائدة:117)

ورَوَى الطَّبَرِيُّ أَيْضًا قَوْلاً آَخَرَ في هذه الآية، قَالَ: "حَدَّثَنِي بِهِ ابْنُ حُمَيْدٍ، قَالَ: ثَنَا سَلَمَةُ، قَالَ: حَدَّثَنِي ابْنُ إسْحَاقَ، قَالَ: حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بنُ أَبِي مُحَمَّد عَنْ سَعِيْد بنِ جُبَيْرٍ، أَو عِكْرِمَةُ عَن ابنِ عَبّاسٍ: ?وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَ بَنِي إِسْرائيلَ? مِيْثَاقُكُم لاَ تَعْبُدُونَ إِلاّ اللّهَ."

وللنُّحَاةِ في تَوْجِيْهِ قَوْلِهِ: ?لا تَعْبُدُونَ? عِدّةُ آرَاءٍ، هي:

الأَوّلُ: يَرَى سِيْبَوَيْهِ أَنَّ كَلِمَةَ (مِيْثَاقٍ) في الآيَةِ تَقُومُ مَقَامَ القَسَمِ، وأَنَّ قَوْلَهُ: (لا تَعْبُدُونَ) جُمْلَةُ جَوَابِ القَسَمِ لا مَحَلَّ لَهَا مِن الإِعْرَابِ، قَالَ في كِتَابِهِ: "واعْلَمْ أَنَّكَ إِذا أَخْبَرْتَ عَنْ غَيْرِكِ أَنَّه أَكَّدَ عَلَى نَفْسِه أَو عَلَى غَيْرِه فالفِعْلُ يَجْري مَجْراهُ حَيْثُ حَلَفْتَ أَنْتَ؛ وذلك قَولُكَ: أَقْسَمَ لَيَفْعَلَنَّ، واستَحْلَفَه لَيَفْعَلَنَّ، وحَلَفَ لَيَفْعَلنَّ ذلك، وأخَذَ عَلَيهِ لا يَفْعَلُ ذلكَ أَبَدًا، وذاكَ أَنَّهُ أَعْطاهُ مِنْ نَفْسِهِ في هذا المَوضِعِ مِثْلَ مَا أَعْطَيْتَ أَنْتَ مِنْ نَفْسِكَ حِيْنَ حَلَفْتَ، كَأَنَّكَ قُلْتَ حِيْنَ قُلْتَ: أُقْسِمُ لَيَفْعَلَنَّ، وقَالَ: واللهِ لَيَفْعَلَنَّ، وحِيْنَ قُلْتَ: أَسْتَحْلِفُهُ لَيَفْعَلَنَّ، قَالَ لَهُ: واللهِ لَيَفْعَلَنَّ، ومِثْلُ ذلكَ قَوْلُهُ تَعَالَى جَدُّهُ: ?وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَ بَنِي إِسْرائيلَ لا تَعْبُدُونَ إِلا اللَّهَ،? وَسَأَلْتُهُ: لِمَ لَمْ يَجُزْ: واللهِ تَفْعَلُ، يُرِيْدُونَ بِها مَعْنى سَتَفْعَلُ، فَقَالَ: مِنْ قِبَلِ أَنَّهُم وَضَعُوا تَفْعَلُ هاهنا مَحْذُوفَةً مِنْها (لا)، وإِنَّما تَجِيءُ في مَعْنى (لا أَفْعَلُ) فَكَرِهُوا أَنْ تَلْتَبِسَ إِحْدَاهُما بِالأُخْرى،" وأخَذَ بِهذا الرَّأيِ جُمْلَةٌ مِن النُّحَاةِ مِنْهُم الكِسَائِيُّ والمبرّد، والفَراء، وأَجْرَى ابْنُ مَالِكٍ جُمْلَةً مِن الأَلْفَاظِ مَجْرَى القَسَمِ، وذلكَ مِثْلُ: (نَشهَدُ)، و (خِفْتُ)، و (عَاهَدْتُ)، و (وَاثَقْتُ) وغَيْرَها من الألفاظِ.

الثّانِي: ذَكَرَ الأَخْفَشُ أَنَّ الفِعْلَ ارْتَفعَ بَعْدَ أَنْ حُذِفَ حَرْفُ النَّصْبِ، والتَّقْدِيْرُ عِنْدَه: أَنْ لا تَعْبُدُوا، والأخْفَشُ يَذْهَبُ هُنا إِلى أَنّ هذا أُسْلُوبُ نَفْيٍ، لا نَهْيٍ، فـ (لا) في الآيَةِ نَافِيَةٌ، أَمّا الفِعْلُ فالأَصْلُ أَنْ يَكُونَ بِحَذْفِ النُّونِ عَلَى تَقْدِيْرِ النَّصْبِ بِـ (أَنْ)، وفي الآيَةِ قِرَاءَةٌ شَاذّةٌ بِجَزْمِ الفِعْلِ: "لا تَعْبُدُوا،" وقَدْ دَفَعَت هذه القِرَاءَةُ كَثِيْرًا مِن النُّحَاةِ إِلى القَوْلِ إِنَّ هذا أُسْلُوبُ نَفْيٍ يَحْمِلُ مَعْنى النَّهْيِ، وقَدْ نُسِبَ إلى الأَخْفَشِ أَنّ الجُمْلَةَ في مَحَلّ نَصْبِ مَفْعُولٍ على إِسْقاطِ حَرْفِ الجرِّ، والتَّقْدِيرُ عِنْدَه: أَخَذَنا مِيْثاقَهُم بِأَنْ لا تَعْبُدُوا، أو عَلَى أَنْ لا تَعْبُدوا، ويَحْتَمِلُ عَلَى تَقْدِيْرِ الأَخْفَشِ أَنْ يَكُونَ مَوْضِعُ الجُمْلَةِ النَّصْبَ عَلَى البَدَلِيَّةِ مِن المِيْثَاقِ، والتَّقْدِيْرُ: أَخَذْنَا عَلَى بَنِي إِسْرَائِيْلَ تَوْحِيْدَهُم.

¥

طور بواسطة نورين ميديا © 2015