ويَرى ابْنُ يَعِيْشَ أَنَّهُ "يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مُنْصُوبًا، ويَكُونُ النَّهْيُ عَن الجَمْعِ بَيْنَهُما، ويَكُونُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُما مَنْهِيًّا عَنْهُ بِدَلِيْلٍ آخَرَ،" وذَكَرَ النِّيْلِيُّ وَجْهًا آخَرَ للنَّصْبِ، قَالَ: "وأَمّا تَجْوِيْزُهُم أَنْ يَكُونَ ?وَتَكْتُمُوا? مَنْصُوبًا فَوَجْهُهُ أَنَّ بَعْدَهُ ?وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ،? كَأَنَّ المَعْنى: لا يَجْتَمِعُ مِنْكُم لَبْسٌ وكِتْمَانٌ مَعْ عِلْمٍ؛ لأَنّ اللّبْسَ الّذي لا يَعْلَمُهُ الإنْسَانُ لا يَتَنَاوَلُهُ النَّهْيُ عَنْه."

يُلاحَظُ أَنَّ الآرَاءَ في هذه الآيَةِ قِسْمَانِ: قِسْمٌ تَوَافَقَ مَعْ مَا يَقُولُهُ أَهْلُ التّفْسِيْرِ بِالمَأثُورِ لَفْظًا ومَعْنىً، وهذا القِسْمُ تَوَافَقَ أَيْضًا مَع أَفْهامِ أَكْثَرِ النُّحَاةِ، فَكَانَ هو المُرَجّحَ عِنْدَهُم، وهذا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ النُّحَاةَ يَنْظُرُونَ إِلى أَنْ تُوَافِقَ تَأويلاتُهِم تَأْوِيلَ أَهْلِ التّفْسِيْرِ بِالمَأثُورِ مِن المُفَسّرِيْنَ، فهُم مَنْ سَبَقُوهُم في العِلْمِ بِأَسْرَارِ القُرآنِ العَظِيْمِ.

وقِسْمٌ لَمْ يَتَوَافَقْ مَع كَلامِ أَهْلِ التَّأْوِيْلِ، ولَمْ تَقْبَلْهُ أَفْهَامُ كَثِيْرٍ مِن النُّحاةِ، ثُمَّ إِنّ مِنْهُم مَنْ ذَهَبَ إِلى تَوْجِيهِ رَاْيِ البَصْرِيّيْنَ تَوْجِيْهًا غَيْرَ سَدِيْدٍ، وأَرَى أَنّ الأخْذَ بِهذا الرَّأيِ عِنْدَ بَعْضِهِم لِكَوْنِه يَحْمِلُ اسْمَ سِيْبَوَيْهِ والبَصْرِيّيْن، ويُلاحَظُ هُنا أَنَّ الرَّأيَ الّذي لَمْ يَتَوَافَقْ مَع مَا ذَكَرَه أَهْلُ التَّأوِيْلِ كَانَ رَأْيًا يَحْتَاجُ إِلى تَأْوِيْلٍ وتَقْدِيْرٍ غَيَّرَ المَعْنى؛ ولِذلِكَ الْتَبَسَت آرَاءُ النُّحَاةِ في فَهْمِ هذا الرَّأْيِ وتَوْجِيْهِه.

3. حَذْفُ (أَنْ) والقَسَمُ:

قوله تعالى: ?وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَ بَنِي إِسْرائيلَ لا تَعْبُدُونَ إِلا اللَّهَ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً وَذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْناً وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ ثُمَّ تَوَلَّيْتُمْ إِلا قَلِيلاً مِنْكُمْ وَأَنْتُمْ مُعْرِضُونَ.? (البقرة: 83)

تَتَحَدّثُ هذه الآيَةُ الكَرِيْمَةُ عَنْ َبَنِي إِسْرَائِيلَ، والمِيْثَاقِ الَّذي أُخِذَ عَلَيْهِم وبُنُودِهِ، وهو كَمَا عَرَّفَهُ الرّاغِبُ عَقْدٌ مُؤَكّدٌ بِيَمِيْنٍ وعَهْدِ، وكَانَت الآياتُ الّتي قَبْلها قد تَحَدَّثت عن النِّعَمِ التي أَنْعَمَ اللهُ بِها عَلَى بَني إسْرَائِيلَ، ومَا قَطَعُوهُ عَلَى أَنْفُسِهم مِن العُهُودِ، قَالَ تَعَالى: ?يَا بَنِي إِسْرائيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَوْفُوا بِعَهْدِي أُوفِ بِعَهْدِكُمْ وَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ،? (البقرة: 40) وتَضمَّنَتْ هذه العُهُودُ الإيْمَانَ بِمَا أَنْزَلَ اللهُ، وإِقَامَ الصَّلاةِ، وإيْتَاءَ الزَّكَاةِ إلى غَيْرِ ذلك مِنْ أَمْرِ العلاقَةِ بَيْنَ العَبْدِ ورَبِّهِ، ثُمّ تَنَاوَلَت الآيَاتُ النِّعَمَ الّتي أَنْعَمَها عَلَيْهِم، وهي نَجَاتُهُم مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ، وتَحَدّثت الآيَاتُ الّتي بَعْدَها عَنْ نَقْضِ اليَهُودِ للمِيْثَاقِ فَعَبَدُوا العِجْلَ، وتَرَكُوا عِبَادَةَ اللهِ، ثُمّ عَفا اللهُ عَنْهُم، وقَدْ أنعَمَ اللهُ عَلَيْهم بعد ذلك بِنِعَمٍ كَثِيْرَةٍ، ثُمّ خَانُوا العَهْدَ مَرَّةً أُخْرى، وأُخِذَ عَلَيْهِم المِيْثَاقُ باتّباعِ مَا جَاءَ في التَّوْرَاةِ، فَنَقَضُوا العَهْدَ والمِيْثَاقَ، وهكذا اسْتَمَرّ اليَهُودُ في نَقْضِ العُهُودِ والمَوَاثِيْق، وكانَ مِنْها هذا المِيْثَاقُ الّذي يَنُصُّ عَلَى عِبَادَةِ اللهِ وَحْدَه، والإِحْسَانِ إِلى الوَالِدَيْنِ، وإِقَامِ الصَّلاةِ، وإيْتَاءِ الزَّكَاةِ.

وقد نقلَ الطّبَرِيُّ رأيًا لأبِي العَالِيَةِ في تفسير هذه الآية، قَالَ: "حَدّثَني المُثَنّى، قَالَ: ثَنا آدَمُ، قَالَ: ثَنا أَبُو جَعْفَرٍ عَن الرَّبِيْعِ عَن أَبِي العَالِيَةِ: أَخَذَ مَوَاثِيْقَهُم أَنْ يُخْلِصُوا لَهُ، وأَنْ لا يَعْبُدُوا غَيْرَهُ،" ونَقَلَ الطّبَرِيُّ ذلِكَ عَن الرَّبِيْعِ مِنْ طَرِيْقٍ آخَرَ.

¥

طور بواسطة نورين ميديا © 2015