الثّالِثُ: أَنْ تَكُونَ الجُمْلَةُ في مَوْضِعِ نَصْبٍ عَلَى الحَالِ، والتَّقْدِيْرُ: أَخَذْنا مِيْثاقَكُم غَيْرَ عَابِدِيْنَ إِلاّ اللهَ، ونُسِبَ هذا القَوْلُ إِلى قُطْرُبٍ، والمُبَرّدِ، وهو حَالٌ مِن المُضَافِ إِلَيْهِ في قَوْلِهِ: ?مِيثَاقَ بَنِي إِسْرائيلَ،? قَالَ أَبُو حَيَّانَ: "وهو لا يَجُوزُ عَلَى الصّحِيْحِ."

الرّابِعُ: أَنّ قَوْلَهُ: "لا تَعْبُدُونَ" مُتَعَلِّقٌ بِقَوْلٍ مَحْذُوفٍ، وتَحْتَمِلُ هُنا أَنْ تَكُونَ في مَحَلِّ نَصْبٍ للقَوْلِ، والتَّقْدِيْرُ: قُلْنَا لَهُم ذلِكَ.

الخَامِسُ: أَنْ يُقَدَّرَ (أَنْ) التَّفْسِيْرِيَّةُ، ويَكُونُ لا مَوْضِعَ إِعْرَابٍ للجُمْلَةِ.

هذه هي أَهَمُّ الآرَاءِ النَّحْوِيَّةِ في تَوْجِيْهِ قَوْلِهِ: ?لا تَعْبُدُونَ إِلا اللَّهَ،? وأَرَى أَنَّ رَأْيَ الأَخْفَشِ هو أَقْرَبُ الآرَاءِ إِلى المَعْنى، ولَمْ يُخَالِف القَوَاعَدَ النَّحْوِيَّةَ إِلاّ في إِضْمَارِ (أَنْ) عِنْدَ البَصْرِيِّيْنَ، فَحَذْفُ (أنْ) المَصْدرِيَّةِ لا يَنْقاسُ عَلَيْهِ عِنْدَهُم، فهو شَاذٌّ قَلِيلٌ خِلافًا للكُوفِيّيْنَ، وممّا يُؤَيِّدُ رَأْيَ الأَخْفَشِ أَنَّه قد جَاءَت (أَنْ) في آيَةٍ أُخْرى، فِيْها الأَلْفَاظُ نَفْسُها والمَعْنى، وهذا في قَوْلِه تَعَالَى: ?أَلَمْ يُؤْخَذْ عَلَيْهِمْ مِيثَاقُ الْكِتَابِ أَنْ لا يَقُولُوا عَلَى اللَّهِ إِلاَّ الْحَقَّ،? (الأعراف:169) وهذا من تَفْسِيْرِ القُرآنِ بالقُرآنِ، وهو مِن التَّفْسِيْرِ بِالمَأثُورِ.

وكَانَ رَأْيُ الأَخْفَشِ مُوَافَقًا لِمَا جَاءَ عَنْ أَهْلِ التَّأْوِيْلِ مِمّا رَوَاهُ الطّبَرِيُّ في جَامِعِ البَيَانِ، فَتَأْوِيْلُهُ للجُمْلَةِ هي تَأْوِيْلاتُهُم، والمَعْنى عِنْدَه هو المَعْنى الّذي أَرَادُوه، فقد وافق مَا رَوَاهُ الطّبَرِيُّ عَن أَبِي العَالِيَةِ، وهو قوله: "أَخَذَ مَوَاثِيْقَهُم أَنْ يُخْلِصُوا لَهُ، وأَنْ لا يَعْبُدُوا غَيْرَهُ."

فيُلاحَظُ هنا أَنَّ تَأْوِيْلَ الأَخْفَشِ النَّحْوِيَّ لا يَخْتَلِفُ عَنْ تَأْوِيْلِ أَبِي العَالِيَةِ في شَيءٍ، وقَدْ ظَهَرَتْ (أَنْ) في تَأْوِيلهِما، وهذا حُجَّةٌ لَهُ، وأرى أَنَّ مَا يَرَاهُ الأخْفَشُ ها هُنا هو أَنَّ (أَنْ) مَصْدَرِيَّةٌ تتَعَلَّقُ بِالأَخْذِ، وهذا مَا يُفْهَمُ مِن كَلامِ أَبِي العَالِيَةِ، فالتَّقْدِيْرُ: أَخَذَ مِنْهُم إِخْلاصَهُم للهِ وعَدَمِ عِبَادَتِهِم إِلاّ إِيّاهُ، فالظّاهِرُ أَنَّهُ قَدْ تَأَثَّرَ في رَأْيِهِ بِكَلامِ أَبِي العَالِيَةِ كَما تَأثّرَ بِآيَةِ الأَعْرَافِ: ?أَلَمْ يُؤْخَذْ عَلَيْهِمْ مِيثَاقُ الْكِتَابِ أَنْ لا يَقُولُوا عَلَى اللَّهِ إِلا الْحَقَّ،? (الأعراف:169) في تَقْدِيْرِ (أَنْ).

وما رَوَاهُ الطّبريّ من أقوالٍ أُخْرى في تفسير هذه الآيةِ سَاعَدَ عَلَى وُجُودِ التَّعَدُّدِ في التَّوْجِيْهِ النَّحْوِيِّ، فالآرَاءُ الكَثِيْرَةُ في إِعْرَابِ الآيَةِ القُرآنِيةِ جَاءَت نَتِيْجَةً لِكَثْرَةِ آرَاءِ المُفَسِّرِيْنَ في دَلالَةِ الآيَةِ، وهؤلاء المُفسِّرُونَ مِن أَهْلِ التَّأْوِيْلِ كَانُوا أَقْرَبَ النّاسِ إِلى كِتَابِ اللهِ، سَواءٌ كَانَ القُرْبُ زَمانِيًّا مِنْ عَصْرِ التَّنْزِيْلِ، أَوْ فِكْرِيًّا، فابْنُ عَبّاسٍ وابنُ عُمرَ وابْنِ مسْعُودٍ وغَيْرُهُم مِن الصّحَابَةِ أَو التّابِعِيْنَ الّذينَ شَهِدَ لَهُم رَسُولُ اللهُ صَلّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلّمَ بِالعِلْمِ، فتَفْسِيْرُهُم كَانَ الأَقْرَبَ إِلى الصَّوَابِ، وارْتِباطُ الصِّنَاعَةِ النَّحْوِيَّةِ بِهذا التَّفْسِيْرِ يَدُلُّ عَلَى قُوَّةِ الرّابِطَةِ بَيْنَ النَّحْوِ والمَعْنى.

وما نقله الطّبري عن ابْنِ جُرَيْج يُفَسِّرُ قَوْلَ مَنْ ذَهَبَ إِلى أَنَّ قَوْلَهُ: ?لا تَعْبُدُونَ إِلا اللَّهَ? مُتَعَلِّقٌ بِقَوْلٍ مُقَدَّرٍ، فقولُ ابن جريج اعتمد على ما جاء في سُورَةِ المَائِدَةِ، وهو قَوْلُهُ تَعَالَى: ?مَا قُلْتُ لَهُمْ إِلاَّ مَا أَمَرْتَنِي بِهِ أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ،? (المائدة:117) فإنَّ قوله تعالى: ?أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ ? متعلّقٌ بالقول.

¥

طور بواسطة نورين ميديا © 2015