أَمّا مَا ذَكَرَه ابْنُ عَبّاسٍ فهو تَأوِيْلُ النّحاةِ نَفْسُهُ، لَفْظًا ومَعْنىً، وقَدْ نَقَلَ الطَّبَرِيُّ قَوْلَه، فَقَالَ: "حَدَّثَنا عُثْمَانُ بنُ سَعِيْدٍ، قَالَ: حَدَّثَنا بِشْر بنُ عَمَارَةَ عَنْ أَبِي رَوْقٍ عَن الضَّحَّاكِ عَن ابْنِ عَبَّاسٍ قَوْلَهُ: ?وَتَكْتُمُوا الْحَقَّ? يَقُولُ: ولا تَكْتُمُوا الحَقَّ وأَنْتُم تَعْلَمُونَ."

وقَدْ وَرَدَ عِنْدَ الفَرّاءِ تَوْجِيْهٌ نَحْوِيٌّ مُعْتَمِدٌ عَلَى كَلامِ ابْنِ عَبّاسٍ والتَّفْسِيْرِ بِالقُرآنِ، قَالَ في تَوْجِيْهِ الجَزْمِ: "إِنْ شِئْتَ جَعلْتَ ?وَتَكْتُمُوا? في مَوْضِعِ جَزْمٍ، تُرِيْدُ بِهِ: ولا تَلْبِسُوا الحَقَّ بالبَاطِلِ ولا تَكْتُمُوا الحَقَّ، فَتُلْقِي (لا) لِمَجِيئِها في أَوّلِ الكَلامِ، وفي قِرَاءَةِ أُبَيّ: ?وَلا تَكُونُوا أَوَّلَ كَافِرٍ بِهِ وَلا تَشْتَرُوا بِآيَاتِي ثَمَناً قَلِيلاً،? (البقرة: 41) فهذا دَلِيْلٌ عَلَى أَنَّ الجَزْمَ في قَوْلِهِ: (وتَكْتُمُوا الحَقَّ) مُسْتَقِيْمٌ صَوَابٌ، ومِثْلُهُ: ?وَلا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ وَتُدْلُوا بِهَا إِلَى الْحُكَّامِ،? (البقرة: 188) وكَذلِكَ قَوْلُهُ: ?يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَخُونُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ وَتَخُونُوا أَمَانَاتِكُمْ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ،? (الأنفال:27) " وهذا يُشِيْرُ إِلى مَدَى تَأثِيْرِ التَّفْسِيْرِ بِالمَأثُورِ في التَّوْجِيْهِ النَّحْوِيِّ.

والمُلاحَظُ هُنا أَنَّ تَأْوِيلَ النُّحَاةِ هو تَأوِيْلُ ابْنِ عَبّاسٍ، وتَقْدِيْرُهُم تَقْدِيْرُهُ، والمَعْنى في الآَيَةِ عِنْدَ النُّحاةِ هو النَّهْيُ عَنْ كِتْمَانِ الحَقِّ، وكَذلِكَ المَعْنى عِنْدَ ابْنِ عَبّاسٍ، والنَّهيُ هنا عَن الحَدَثَيْنِ: خَلْطِ الحَقِّ بِالباطِلِ، وكِتْمَانِ الحَقِّ.

وأَمّا مَا ذَكَرَهُ أبو العَالِيَةِ، ومُجَاهِدٌ فَهو يَتَّفِقُ مَع مَا ذَكَرَهُ الكُوفِيُّونَ، وهو القَوْلُ بالصَّرْفِ، ومَا نُقِلَ عَنْهُما قَدْ جَاءَ في قَوْلِ الطّبَرِيِّ: "حَدَّثَنا أَبُو جَعْفَرٍ عَن الرَّبِيْعِ عَن أَبِي العَالِيَةِ: ?وَتَكْتُمُوا الْحَقَّ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ،? قَالَ: كَتَمُوا بَعْثَ مُحَمَّدٍ صَلّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ،" وكذلكَ مَا نُقِلَ عَنْ مُجَاهِدٍ.

ويَقْصِدُ الطَّبَرِيُّ بِقَوْلِهِ: "وأَمّا الوَجْهُ الثّانِي مِنْهُما فهو عَلَى مَذْهَبِ أبِي العَالِيَةِ ومُجَاهِدٍ" أنَّ الوَجْهَ النَّحْوِيَّ وَافَقَ المَعْنى الّذي ذَهَبَ إِلَيْهِ أَبُو العَالِيَةِ ومُجَاهِدٌ، وهذا المَعْنى هو الإِخْبَارُ عَنْ كِتْمَانِهِم بَعْثَ مُحَمّدٍ صَلّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وهذا يَتَّفِقُ مَع وَجْهِ الكُوفِيِّيْنَ، وهو القَوْلُ بالصَّرْفِ، وتَقْدِيْرُهُم للجُمْلَةِ يَحْمِلُ مَعْنى الإِخْبَارِ، وهو: وأَنْتُم تَكْتُمُونَ الحَقَّ.

وقَدْ قُرِئَ في الشَّوَاذِّ عَن ابْنِ مَسْعُودٍ: "وتَكْتُمُونَ الحَقَّ،" وهذا مِمّا يَعْضُدُ قَوْلَ الكُوفِيّيْنَ، وتَقْدِيْرَ ابْنِ شُقَيْرٍ، قَالَ العُكْبُرِيُّ: "والوَجْهُ فِيْهِ أَنَّهُ جَعَلَ الوَاوَ للحَالِ وحَذَفَ المُبْتَدَأ، تَقْدِيْرُه: وأَنْتُم تَكْتُمُونَ الحَقَّ."

أَمّا رَأْيُ البَصْرِيِّينَ وهو القَوْلُ بِتَقْدِيْرِ (أَنْ) فالمَعْنى فِيْهِ غَيْرُ وَاضِحٍ؛ إِذْ يُفْهَمُ مِنْ رَأْيِ البَصْرِيّينَ أَنّ الوَاوَ في هذه الآيَةِ للجَمْعِ، فالنَّهْيُ في الآيَةِ -كَمَا فَهِمَهُ بَعْضُهُم- عَن الجَمْعِ بَيْنَ الفِعْلَيْنِ، وهذا يَعْني جَوَازَ فِعْلِ أَحَدِهِما، وهذا أَمْرٌ تَرْفُضُهُ الشَّرِيْعَةُ، ومِمّن فَهِمُوا هذا الفَهْمَ القَوّاسُ المُوصِلِيُّ، وأَبُو حَيّانَ الأَنْدَلُسِيُّ، قَالَ في تَفْسِيْرِهَِ: "وَمَا جَوَّزُوهُ لَيْسَ بِظَاهِرٍ؛ لأَنَّهُ إِذْ ذَاكَ يَكُونُ النَّهْيُ مُنْسَحِبًا عَلَى الجَمْعِ بَيْنَ الفِعْلَيْنِ، كَمَا إِذَا قُلْتَ: لا تَأكُل السَّمَكَ وَتَشْرَبَ اللَّبَنَ، مَعْناهُ النَّهْيُ عَن الجَمْعِ بَيْنَهُما، وَيَكُونُ بِالمَفْهُومِ يَدُلُّ عَلَى جَوَازِ الالْتِبَاسِ بِوَاحِدٍ مِنْهُما، وذلكَ مَنْهِيٌّ عَنْه؛ فَلِذلِكَ رُجِّحَ الجَزْمُ."

¥

طور بواسطة نورين ميديا © 2015