والوَجْهُ الثّانِي: إِنَّ المَعْنى في حَالِ النَّصْبِ لَيْسَ الجَمْعَ، وإِنَّما هو إِخْبَارٌ عَن الكَافِرِيْنَ بِكِتْمَانِهِم الحَقَّ، قَالَ الطَّبَرِيُّ: "وَيَكُونُ قَوْلُهُ: ?وَتَكْتُمُوا الْحَقَّ? خَبَرًا مِنْهُ عَنْهُم بِكِتْمَانِهِم الحَقَّ الّذي يَعْلَمُونَهُ، فَيَكُونُ قَوْلُهُ: "وتَكْتُمُوا" حِيْنَئِذٍ مَنْصُوبًا لانْصِرَافِهِ عَنْ مَعْنى قَوْلِهِ: ?وَلا تَلْبِسُوا الْحَقَّ بِالْبَاطِل؛ ِ? إِذْ كَانَ قَوْلُهُ: ?ولا تَلْبِسُوا? نَهْيًا، وقَوْلُهُ: ?وَتَكْتُمُوا الْحَقَّ? خَبَرًا مَعْطُوفًا عَلَيْهِ، غَيْرُ جَائِزٍ أَنْ يُعَادَ عَلَيْهِ مَا عَمِلَ في قَوْلِهِ: ?تَلْبِسُوا? مِن الحَرْفِ الجَازِمِ، وذلكَ هو المَعْنى الّذي يُسَمِّيْه النَّحْوِيُّونَ صَرْفًا،" وهذا مَا ذَهَبَ إِلَيْهِ أَهْلُ الكُوفَةِ.

وقَدَّرَهُ ابْنُ شُقَيْرٍ بِقَوْلِهِ: "مَعْنَاهُ واللهُ أَعْلَمُ: وأَنْتُم تَكْتُمُونَ الحَقَّ"، ثُمَّ قَالَ: "فَلَمّا أَسْقَطَ أَنْتُم نَصَبَ،" وهذا تَفْسِيْرٌ لِرَأْيِ الكُوفِيِّيْنَ، والظّاهِرُ لِي أَنَّ الوَاوَ فِيْهِ لا تَدُلُّ عَلَى الجَمْعِ، وإِنْ كَانَتْ عَاطِفَةً، قَالَ الفَرّاءُ: "فَإِنْ قُلْتَ: وَمَا الصَّرْفُ؟ قُلْتُ: أَنْ تَأْتِيَ بِالوَاوِ مَعْطُوفَةً عَلَى كَلامٍ في أَوَّلِهِ حَادِثَةٌ لا يَسْتَقِيْمُ إِعَادَتُها عَلَى مَا عُطِفَ عَلَيْها، فَإِنْ كَانَ كَذلِكَ فهو الصَّرْفُ."

وقَدْ الْتَبَسَ بَعْضُ النُّحَاةِ فِي فَهْمِ رَأْيِ الكُوفِيِّينَ، فَخَلَطُوا بَيْنَ الرَّأْيَيْنِ، ونَسَبُوا للكُوفِيّينَ القَوْلَ بِإِضْمَارِ (أَنْ) في مَفْهُومِهِم للصَّرْفِ، ولَيْسَ كَذلِك، قَالَ أبُو حَيَّانَ: "وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ فِي قِرَاءَةِ النَّصْبِ: وهذه الوَاوُ وَنَحْوُها الَّتي يُسَمِّيْها الكُوفِيّونَ وَاوَ الصَّرْفِ؛ لأَنّ حَقِيْقَةَ وَاوِ الصّرْفِ الّتي يُرِيْدُونَها عَطْفُ فِعْلٍ عَلَى اسْمٍ مُقَدَّرٍ، فَيُقَدّرُ (أَنْ) لِيَكُونَ مَع الفِعْلِ بِتَأْوِيْلِ المَصْدَرِ، فَيَحْسُنَ عَطْفُه عَلَى الاسْمِ. انْتَهَى. ولَيْسَ قَوْلُهُ تَعْلِيْلاً لِقَوْلِهِم وَاوَ الصَّرْفِ، إِنَّما هو تَقْرِيْرٌ لِمَذْهَبِ البَصْرِيّيْنَ، وأَمّا الكُوفِيّونَ فَإِنَّ وَاوَ الصَّرْفِ نَاصِبَةٌ بِنَفْسِها، لا بِإِضْمَارِ (أَنْ) بَعْدَها."

ومِمّن خَلَطَ بَيْنَ الرَّأْيَيْنِ أَيْضًا البَاقُولِيُّ الأَصْفَهَانِيُّ، وتَاجُ الدّينِ الجَنَدِيُّ، قَالَ: "فَالنَّصْبُ عَلَى أَنَّ الوَاوَ وَاوُ الصَّرْفِ، أَيْ: مَع الكِتْمانِ، وإِنَّمَا يَكُونُ ذلِكَ إِذا لَمْ يُرَد الاشْتِرَاكُ بَيْنَ الفِعْلِ والفِعْلِ، أَيْ: لا تَجْمَعُوا بَيْنَ لَبْسِ الحَقِّ بِالبَاطِلِ وبَيْنَ كَتْمِ الحَقِّ، فالمَنْهِيُّ عَنْهُ هو الجَمْعُ بَيْنَ الفِعْلَيْنِ لا نَفْسَ الفِعْلِ،" فالرّأيُ للكُوفِيّيْنَ، والتَّقْدِيْرُ للبَصْرِيّيْن.

والوَجْهُ الثّالِثُ: يَرَى أبُو جَعْفَرٍ النَّحَّاسُ، ومَكِيٌّ أَنَّ الفِعْلَ مَنْصُوبٌ لأَنَّهُ جَوَابُ النَّهْيِ، قَالَ: "تَكْتُموا مَنْصُوبٌ؛ لأَنَّهُ جَوَابُ النَّهْيِ، وحَذْفُ النُّونِ عَلَمُ النَّصْبِ،" ولَمْ يُوضّحا رَأيَهُما في الوَاوِ، كَما َلَمْ يُبَيِّنَا كَيْفَ يَكُونُ جَوَابًا للنَّهْيِ مَع وُجُودِ الوَاوِ.

هذا رَأْيُ النُّحَاةِ في هذه المَسْأَلَةِ، وأَرَى أَنَّ التَّنَوُّعَ في آرَائِهِم جَاءَ مُوَافِقًا لِتَفْسِيْرِ أَهْلِ التّفْسِيْرِ بِالمَأثُورِ، قَالَ الطَّبَرِيُّ في الوَجْهِ الأَوَّلِ، وهو الجَزْمُ: "فَأَمّا الوَجْهُ الأَوَّلُ مِنْ هذينِ الوَجْهَيْنِ اللَّذَينِ ذَكَرْنا أَنَّ الآيَةَ تَحْتَمِلُهُما فهو عَلَى مَذْهَبِ ابْنِ عَبّاسٍ،" وقَالَ في الوَجْهِ الثّانِي: "وأَمّا الوَجْهُ الثّانِي مِنْهُما فهو عَلَى مَذْهَبِ أبِي العَالِيَةِ ومُجَاهِدٍ،" فَقَدْ جَاءَ الوَجْهَانِ النَّحْوِيّانِ مُتَّفِقَيْنِ مَع مَا ذَكَرَهُ أَهْلُ التّفْسِيْرِ بِالمَأثُورِ.

¥

طور بواسطة نورين ميديا © 2015