(إِنَّهُ طَغَى): أي تجاوز الحد وتمرد وتجبر، قبحه الله، فكان يقتل أبناء بني إسرائيل, ويستحيي نسائهم. وبلغ به الأمر أن خرج على قومه مرة بصورة المجتهد، المستفرغ لطاقته، واجتهاده، ونصحه، قائلاً: (ما علمت لكم من إله غيري)!

(فَقُلْ هَلْ لَكَ إِلَى أَنْ تَزَكَّى): انظر هذا التلطف في الدعوة! لم يقل له: زكِّ نفسك! بصيغة الأمر, وإنما تلطف في الأسلوب فقال له: (هل لك) يعني: أدعوك، وأعرض عليك (أن تزكى). والتزكية تعني التطهر، بتنقية النفس من شوائب الشرك, والغل, والأخلاق الرذيلة, والتصرفات القبيحة.

(وَأَهْدِيَكَ إِلَى رَبِّكَ فَتَخْشَى): وهذا لون آخر في التلطف, فإنه وضع نفسه بموضع الهادي، والدليل كأنما يقول: أنا كالذي يمشي بين يديك, والدليل الذي يدلك على الدرب. وهذا من التواضع في الدعوة لأنه يخاطب ذا سلطان, ومعلوم أن الخطاب لأصحاب المقامات، والوجاهات، ليس كالخطاب لآحاد الناس, فينبغي أن ينزل الناس منازلهم. ويقال إن واعظاً دخل على أحد الخلفاء، فوعظه موعظة جافة, فيها غلظة, فقال له الخليفة: يا هذا! إن الله قد بعث من هو خير منك, إلى من هو شر مني, فقال: (فقولا له قولاً ليناً لعله يتذكر أو يخشى) , ولا ريب أن الله تعالى يعطي على الرفق مالا يعطي على العنف.

وفي قوله: (إلى ربك) تلطف أيضاً؛ حيث ذكَّره بربوبية الله له. وقوله: (فتخشى): أي يثمر ذلك لك خشية، وينقشع ما في قلبك من قسوة وغلظة.

(فَأَرَاهُ الْآَيَةَ الْكُبْرَى): عرض عليه أن يريه آية، قال: (فأت بها إن كنت من الصادقين. فألقي عصاه فإذا هي ثعبان مبين. ونزع يده فإذا هي بيضاء للناظرين) يعني: ألقى عصاه، فاستحال حيةً حقيقية، وأدخل يده في جيبه، ثم أخرجها، فإذا هي تبرق بيضاء، من غير سوء! آيتان عظيمتان، باهرتان، حتى إنه أرتج على فرعون, وأخذ يخبط في التهم. ومعنى (الآية الكبرى) أي العلامة الباهرة.

(فَكَذَّبَ وَعَصَى): يعني: ومع أنه تحدى، ولم يصمد أمام التحدي , فقد كذب وعصى.

(ثُمَّ أَدْبَرَ يَسْعَى): وفوق ذلك، ما ترك الأمر مغلقاً، بل أدبر يسعى سعياً حثيثاً في الصد.

(فَحَشَرَ فَنَادَى (23) فَقَالَ أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلَى): أي جمع الناس، وأعلن قائلاً: (أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلَى) يعني زاده ظهور الحق إصراراً على الباطل, حتى إنه قال لهامان، وزيره: (ابن لي صرحاً لعلى أبلغ الأسباب أسباب السموات فأطلع إلى إله موسى وإني لأظنه كاذباً) وغير ذلك من صنوف الطغيان.

(فَأَخَذَهُ اللَّهُ نَكَالَ الْآَخِرَةِ وَالْأُولَى): اختلف المفسرون في هذا، فقيل: أن المراد بالآخرة: آخر كلامه, والأولى أول كلامه, فآخر كلامه " أنا ربكم الأعلى" , وأول كلامه "ما علمت لكم من إله غيري" , وقيل: أن المراد بالآخرة والأولى: الآخرة، والدنيا. فالله تعالى أذاقه عذاب الدنيا, وعذاب الآخرة؛ عذاب الدنيا بالغرق, ومن قبل الغرق الطوفان, والجراد, والقمل, والضفادع, والدم, وأما في الآخرة، فلا يخفى: (أدخلوا آل فرعون أشد العذاب)؛ وإنما قدم الآخرة لأنها أشد, وقيل في تفسير الآخرة والأولى: يعني أول عمله، وآخره , وهو قريب من المعنى الأول.

(إِنَّ فِي ذَلِكَ لَعِبْرَةً لِمَنْ يَخْشَى): أي موعظة، وتوقظة، لمن في قلبه خشية, لأن الآيات، والمواعظ لا ينتفع بها إلا أهل الخشية.

فالمعنى الإجمالي لهذه الآيات: أن الله سبحانه وتعالى أراد أن يضرب مثلاً للكافرين، المنكرين للبعث، بقصة جبار من الجبابرة الظالمين, وكيف كانت نهايته, فذكَّر الله تعالى بقصة موسى، عليه السلام، حينما أمره ربه أن يقصد فرعون بسبب طغيانه، وجبروته، وتمرده, وأن يعرض عليه مشروع الإيمان، وطريق الهدى، والخشية، والتزكية, فركب رأسه وأبى, وبالغ في إنكاره، وجبروته، وكفره، فادعى الربوبية، بعد أن كان قد ادعى الإلوهية. فكان من شأنه، أن أذله الله تعالى، وأخزاه خزياً ما بعده خزي, فأهلكه الله بألطف الأشياء وهو الماء, فأغرقه فيه, ثم يوم القيامة يحرقه بالنار. وفي هذا عبرة لمن كان له قلب أو ألقى السمع وهو شهيد. فلينتبه هؤلاء المشركون، المنكرون للبعث، الذين يظنون أنهم إنما يمتعون في هذه الدنيا، ثم ينتهي كل شيء.

الفوائد المستنبطة:

¥

طور بواسطة نورين ميديا © 2015