وهكذا نجد أن العقل الغربي قد جازف مرتين واستهلك في كل مرة قرابة سبعة قرون يبدأ بالسفسطة وينتهي بالشك واللاأدرية، وذلك بسبب غرور العقل الإنساني واعتداده المفرط بنفسه وإعراضه عن الوحي الإلهي.
وفي الفصول الثلاثة الأخيرة من هذا الباب حاول الباحث أن يبين كيف تسلَّلت العَلْمانية إلى العقل العربي ودنيا المسلمين، وكيف تغلغلت في المجتمع وعاداته وتقاليده العربية والإسلامية. كما رصدت بعض المفاهيم المتشابكة مع العَلْمانية كالعِلمانية والعَلْمانوية والعَلْمنة والعَلْمانية الشاملة والعَلْمانية الجزئية، والعَلْمانية الصلبة والعَلْمانية اللينة، والعَلْمانية والسلام.
ثم حاول الباحث أن يحل إشكالية الدور الفلسفية التي يستعيدها الخطاب العَلْماني من أجل التأسيس لعَلْمانية تقوم على أسس فلسفية محضة بعيداً عن أي اعتبارات تاريخية أو اجتماعية أو نصوصية. وقد ناقش الباحث هذه القضية وبيَّن الفرق بين الرؤية الكلامية والرؤية العَلْمانية لقضية الدور وإلى أين تظل سارية في الرؤيتين.
وفي المبحث الأخير من هذا الباب حاول الباحث أن يصنف خصائص العَلْمانية كما هي شائعة في التنظيرات العربية، ثم حاول أن يستخلص منها تعريفاً جامعاً للعَلْمانية، ثم حاول أن يضغط التعريف مرة أخرى بكلمة واحدة؛ فكان تعريف العَلْمانية بأنها «الدنيوية».
أما الباب الثاني فقد جاء بعنوان: «التاريخية ومداخلها المعلنة» وتحدث فيه عن مفهوم التاريخية عموماً، ثم تاريخية القرآن خصوصاً، وكيف حاول الخطاب العَلْماني العربي أن يسقط النظريات الغربية في دراسة الأديان على الإسلام بوصفها وهماً من أوهام الجماهير أو أساطير وخرافات أنتجها التراكم المعرفي عبر الحضارات.
وقد عرَّف الباحث التاريخية العامة بأنها «إخضاع الوجود بما فيه لرؤية (زمكانية) قائمة على الحتمية والنسبية والتطورية»، وقد انعكس ذلك على القرآن الكريم فوُصف بأنه نص أو خطاب تاريخي، وأنه مُنتَج ثقافي ذو بنية أسطورية. وقد عرف مصطلح تاريخية القرآن بأنه «إخضاع القرآن الكريم لأثر الزمان والمكان والمخاطب».
وقد كان القول بالتاريخية يتسلَّل عبر مفاهيم إسلامية مثل: المقاصد وعلوم القرآن، ومفاهيم حداثية مثل: الفن الأدبي والقصص الأسطوري، ويراد من خلال هذه المفاهيم ذرُّ الرماد في العيون وتمرير الأيديولوجيا العَلْمانية دون مصادمة صريحة مع الفكر الإسلامي، ومعلوم أن مقاصد الشريعة مبدأ أصولي له ضوابطه وأصوله، ولكن الخطاب العَلْماني يستخدمه مجرداً من أي ضوابط، ومعلوم أن المقاصد المرادة هي مقاصد الباري - عز وجل - ولكن الخطاب العَلْماني يبحث عن مقاصد الإنسان ومراداته وأهوائه، وتكون المقاصد وسيلة أساسية لتحييد اللغة من أجل إتاحة الفرصة أمام العقل ليتحكم بالنص.
وإذا كانت الغاية من المقاصد تحكيم العقل بالنص فإن علوم القرآن استخدمت لتحكيم الواقع بالنص، فالنص ضمن هذا المنظور ينزل بناءً على طلب الواقع واستجابة لدعوته، والنص عليه دائماً أن يبارك الواقع وإلا فإن التاريخية ستطويه تحت جناحها المطاط.
ولم يكتف الخطاب العَلْماني بإخضاع القرآن الكريم لحكومة العقل والواقع وإنما تم في المدخلين الأدبي والأسطوري تحكيم العواطف والمشاعر والهواجس الإنسانية أيضاً في فهم النص أو التخلص منه. وفي المدخل الكلامي استُلِب الخطاب العَلْماني للجدل التبشيري فأعيدت صياغة قضية خلق القرآن من أجل أنسنة القرآن الكريم، وشُبِّه تجسُّد القرآن في مصحف بتجسُّد المسيح في شبح إنساني.
ونصل إلى الباب الثالث وعنوانه «الأصول الحقيقية للقراءة التاريخانية العَلْمانية»، وقد حاول الباحث أن يكشف عن مدى الاجترار العَلْماني للنظريات الغربية المتعلقة بالأديان وإسقاطها على القرآن الكريم وفهمه وتفسيره. ومن أهم هذه الأسس المستوردة: النزعة الإنسية التي كرستها فلسفات (سبينوزا، وأوجست كونت، وهيجل، وفيورباخ، ونيتشه، وسارتر)، وقد تولى بعض الباحثين العرب نقل هذه الفلسفات إلى الفكر العربي فكانت (النيتشوية القصيمية) على يد عبد الله القصيمي، وقد اعتبروه نيتشه العربي لما يظهر في مؤلفاته من نزعة تمجيدية للإنسان وناقمة على الألوهية.
¥