وكانت المعركة الجدلية قد انتهت في الغرب إلى القول بتاريخية النصرانية وتاريخية الكتب المقدسة وأن الأديان من صنع البشر وتعبير عن مطامحهم وأحلامهم، وأراد الفكر العَلْماني العربي أن يستثمر هذه المقولات الجاهزة ليتعامل على أساسها مع الإسلام وكتابه القرآن؛ فأخذت تشيع بين فئة من الباحثين العرب فكرة التاريخية وتاريخية النص عموماً، وتاريخية القرآن الكريم خصوصاً في بعض المؤتمرات والندوات والبحوث والمقالات، إلا أن مسألة التاريخية تُطرح أحياناً بطريقة مراوغة دون أن ينتبه إليها العقل الإسلامي وذلك حين يقال: إن القرآن ثابت المنطوق؛ متحرك المفهوم، أو إن القرآن ثابت من حيث اللفظ؛ تاريخي من حيث المعنى. والمتأمل يكاد لا يرى في هذا القول أي مشكلة للوهلة الأولى، ولكن التمعُّن يبين أن القضية ليست بهذا العموم وهذا الإطلاق؛ لأن القرآن الكريم فيه ما هو ثابت المعنى كأمور العقائد وما هو معلوم من الدين بالضرورة، وفيه ما هو متحرك يحتمل دلالات مختلفة وأوجهاً متعددة، ولكن الخطاب العَلْماني العربي يمزج بين المحورين دون تفرقة بين ثوابت ومتغيرات، بالإضافة إلى كون المتغير عنده والذي يخضع للاجتهاد لا تحكمه ضوابط ولا تحدُّه حدود.

وفي هذا الإطار جرت مؤخراً في كلية دار العلوم في جامعة القاهرة مناقشة رسالة علمية بقسم الفلسفة الإسلامية بعنوان: «موقف الفكر العربي العَلْماني من النص القرآني، دعوى تاريخية .. النص نموذجاً» للطالب السوري أحمد إدريس الطعان الحاج الموفد من جامعة دمشق، والذي حصل بها على درجة الدكتوراه بمرتبة الشرف الأولى. وقد تكونت لجنة المناقشة من الأستاذ الدكتور السيد رزق الحجر أستاذ الفلسفة بدار العلوم مشرفاً، والأستاذ الدكتور حسن حنفي أستاذ الفلسفة بكلية الآداب جامعة القاهرة مناقشاً، والأستاذ الدكتور محمد عمارة المفكر الإسلامي المعروف مناقشاً.

وعن منهج الباحث في هذه الرسالة فقد اقتضت طبيعة الموضوع المعالج أن تستخدم فيه أكثر المناهج؛ فكان المنهج الوصفي في عرض الأفكار وتقريرها، ويتداخل أحياناً المنهج الوصفي مع المنهج التحليلي، وأحياناً تتداخل معظم المناهج فيكون الوصف والتحليل والنقد والمقارنة كلها ضرورياً في الفكرة الواحدة نفسها.

وقد جاءت خطة البحث في مقدمة وثلاثة أبواب وخاتمة:

الباب الأول: عنوانه «العَلْمانية من الغرب إلى الشرق»، وفيه أربعة فصول:

الفصل الأول: الجذور الفلسفية والتاريخية للعَلْمانية في العالم الغربي:

وتناول فيه علاقة الفكر الكنسي مع الفكر الرشدي - نسبة إلى ابن رشد - كما فهمه الغربيون، ثم الصراع بين الكنيسة والعلم والفلسفة، وكيف انتهى هذا الصراع بخسارة الكنيسة خسارة فادحة واجتياح العَلمانية مؤيدة بالعِلمانية لكل مجالات الحياة الغربية، ولكن في الوقت الذي كانت فيه العَلْمانية تحقق نجاحات هائلة على مستوى العلم والطبيعة؛ كانت تُمنى بإخفاقات خطيرة جداً على مستوى الفلسفة والعقل والحقيقة والسعادة، فكان حصاد العَلْمانية مزيداً من اليأس والمرارة والدمار الذي لحق بالإنسانية على مستوى الأفراد والمجتمعات والشعوب. وقد وصل الباحث من خلال هذا الفصل إلى نتيجة قد تبدو طريفة وهي أن العقل الغربي ممثلاً بالعقل اليوناني والعقل الأوروبي الحديث قد جازف مرتين واعتمد على نفسه في كلتا المرتين مستبعداً الوحي.

- ففي المرة الأولى: يمكن اعتبار بدء هذه المجازفة منذ السوفسطائيين في القرن السادس قبل الميلاد، وانتهائها بآخر الشكاك الذي يسمى «إسكستوس» في القرن الثاني للميلاد والذي ألف كتاباً أسماه (الحجج البيرونية) نصر فيه أستاذه «بيرون» (إمام الشكاك) وقد رأى «إسكستوس» أن المعرفة ممتنعة المنال.

- وفي المرة الثانية: تبدأ مجازفة العقل الأوروبي الحديث منذ أن شاعت سفسطة الرشديين وانتشار فكرة الحقيقة المزدوجة أو الحقيقة ذات الوجهين، وتنتهي في القرن العشرين بالفلسفات اللاأدرية أو الشكية التي يمثلها «برتراندرسل» وغيره من المدارس الفلسفية التي تمثل العدمية والإحباط واليأس والقنوط من الوصول إلى المعرفة وانفصام الإنسان عن العالم، يقول «برتراندرسل»: «إننا نعيش اليوم فيما أطلق عليه اسم عصر الشك والقلق والنسبية والسخرية من كل شيء».

¥

طور بواسطة نورين ميديا © 2015