والحق أن القرآن العظيم الذي جاء لهداية البشر قد عالج بناء الإنسان وقضاياه أكثر مما عالج جزئيات العلوم الطبيعية؛ فأنشأ لهذا الإنسان تصوراً خاصاً ونظاماً خاصاً؛ فمادة القرآن هي الإنسان وتصوره واعتقاده وسلوكه وأعماله وروابطه وعلاقاته، أما العلوم المادية فإن الإنسان يمكن أن ينالها بعقله وحواسه وتجاربه وكشوفه؛ إذ أنها أساس خلافته في الأرض فهو لذلك مهيأ لها بطبيعة تكوينه، والقرآن قد اهتم بهذا الإنسان ذاته أكثر مما اهتم بجزئيات تلك العلوم؛ لأن الإنسان هو الذي يكشف تلك المعلومات وينتفع بها.

ولما استبعد العلم الحديث الوحي عن مضمارهـ، واحتلت العلوم الاجتماعية والإنسانية تلك المكانة الرفيعة التي كان يحتلها هذا الوحي في توجيه الإنسان وإرشاده ـ فقد أصبحت مشكلات هذه العلوم أكبر من مشكلات تلك الطبيعة بكثير؛ إذ أريد منها أكثر مما تستطيع تقديمه؛ فغاية ما تفعله هذه العلوم أنها تدرس سلوكيات الإنسان وتصوغها في قوانين ونظريات عامة، إلا أنها ـ رغم كل ذلك ـ لم تبن نفسها بناء صحيحة من جهة ولا اتخذت سلطة مرجعية مناسبة من جهة أخرى؛ ولأجل ذلك يجب في هذا المضمار بيان بعض خصائص هذه العلوم؛ وتفصيل ذلك كالآتي:-

معاملة العلوم الاجتماعية بصورة مادية:-

لما كان الإطار المادي مسيطراً على العلوم المعاصرة سيطرة تامة فقد عوملت العلوم الاجتماعية بصورة مادية؛ شأنها في ذلك شأن العلوم الطبيعية، رغم اختلاف طبائع كل نوع من هذه العلوم؛ فالظواهر الإنسانية ليست في واقعها وحقيقة أمرها مظاهر حسية، إلا أن المنهجية الوضعية قد قدست التجريب وجعلت الحقيقة العلمية حكراً على التجربة، وذلك يتنافى تماماً مع طبيعة تلك العلوم، وقد اعتبرت هذه العلوم الإنسان جزءً لا يتجزأ من الوجود الطبيعي، إذ ليس له – حسب هذه النظرة – كيان أو خصوصية غير مادية؛ فعقله ووعيه ونفسه وروحه كلها مادة شأنها في ذلك شأن كل مواد الطبيعة المحسوسة، وبناء على هذا الافتراض فقد نشأ فصل حاد بين المعارف الإنسانية وبين العلم التجريبي؛ فاصطدم هذا العلم بالوجود الروحي والقيم؛ وهي أمور لا يمكن قياسها كمياً، ولما كانت هذه العناصر الأساسية غير قابلة للتجريب والقياس الكمي فقد اعتبر البعض هذه العلوم ليست علوماً بالمعنى الصارم

فهذه العلوم لم تتجاوز الفرضيات ولم ترق نتائجها إلى مستوى الحقائق العلمية كالعلوم المادية؛ ولهذا لم تصل إلى درجة (علم)؛ وما ذلك إلا لاعتمادها على نفس المناهج التي استعيرت لها من تلك العلوم؛ رغم الاختلاف الكبير. وقد لاقت الدراسات الاجتماعية صعوبة كبيرة؛ إذ ليس بها حقائق على النحو الذي يوجد في العلوم التجريبية، وحقائقها لا يمكن أن تقاس بوحدات نمطية؛ إذ لا توجد علاقات نمطية بين هذه الوحدات.

الأهداف غير العلمية للعلوم الاجتماعية:-

إن من أخطر الأمور وأكبر العقبات في العلوم الاجتماعية ـ سيادة الأهداف الأيديولوجية؛ إذ أن هذه الأهداف تفقد هذه العلوم علميتها بصورة مباشرة؛ وما ذلك إلا لأن هذه الأهداف قد حوّلت المشتغلين بالعلوم الاجتماعية في بعض الأحيان من علماء محايدين إلى موظفين فقدوا الموضوعية والأمانة والحياد، فتحوّل العلم بتحوّل هولاء المشتغلين به – من أداة معرفية إلى أداة أيديولوجية لا تبحث عن الحقائق في ذاتها وإنما تبحث عن ما يثبت هذه الإيديولوجية ويحقق مصالحها

الاختلافات الحادة بين علماء الاجتماعيات:-

لما كانت الأسس التي تقوم عليها دراسة العلوم الاجتماعية مختلفة وليس فيها اتفاق بين أنصار المدارس ـ فقد اختلفت النتائج باختلاف الأسس والمعالجات؛ فالمفاهيم والقيم والعناصر غير متفق عليها؛ وبذلك ظهر التناقض الحاد، ولهذا ذهب ديكارت إلى أنه ليس في مضمار فلسفة العلوم الاجتماعية والإنسانية أمر واحد ليس موضع خلاف

أبعد هذا كله أما آن للإعجاز العلمي أن يغير منهجيته تغييرا كليا بدلا من تلمس الضوابط فحسب

ـ[جمال الدين عبد العزيز]ــــــــ[12 May 2009, 10:08 م]ـ

المصادر والمراجع:

ـ أحمد بن حنبل الشيباني: مسند الإمام أحمد ط/ مؤسسة قرطبة

ـ امزيان: محمد محمد: منهج البحث الاجتماعي بين الوضعية والمعيارية، المعهد العالمي للفكر الإسلامي 1991م.

¥

طور بواسطة نورين ميديا © 2015