ومن ذلك أيضاً ادعاء بعضهم أن قوله تعالى: (وَأَرْسَلْنَا الرِّيَاحَ لَوَاقِحَ) يدلّ على ما هو مقرر في علم النيات من دور الرياح في تلقيح النبات؛ إذ تحمل هذه الرياح مادة الذكورة حيث تلتقي بمادة الأنوثة فيكون الإخصاب، وهذه حقيقة علمية صحيحة، ولكن هل الآية تدل عليها؟ لا، لأن السياق لا يتناول النبات وإنما يتحدث عن السحاب وتلقيحه؛ لا تلقيح النبات؛ ولهذا ذكر الله تعالى إنزال الماء بعد وصف الرياح بأنها (لَوَاقِحَ) فقال: (وَأَرْسَلْنَا الرِّيَاحَ لَوَاقِحَ فَأَنزَلْنَا مِنَ السَّمَاء مَاء فَأَسْقَيْنَاكُمُوهُ وَمَا أَنتُمْ لَهُ بِخَازِنِينَ) وصحيح أن هنالك علاقة وطيدة بين إنزال الماء والنبات؛ إلا أن الآية ذكرت سقي هذا الماء للناس لا إنبات النبات به. ولما كان السياق يشير وبصورة مباشرة إلى تلقيح السحاب فإن هذا المعنى تعضده آيات أخرى تم فيها ربط الرياح بالمطر؛ نحو قوله تعالى: (وَهُوَ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّيَاحَ بُشْرًا بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ حَتَّى إِذَا أَقَلَّتْ سَحَابًا ثِقَالاً سُقْنَاهُ لِبَلَدٍ مَّيِّتٍ فَأَنزَلْنَا بِهِ الْمَاء فَأَخْرَجْنَا بِهِ مِن كُلِّ الثَّمَرَاتِ كَذَلِكَ نُخْرِجُ الْموْتَى لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ) وقوله: (وَهُوَ الَّذِي أَرْسَلَ الرِّيَاحَ بُشْرًا بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ وَأَنزَلْنَا مِنَ السَّمَاء مَاء طَهُورًا لِنُحْيِيَ بِهِ بَلْدَةً مَّيْتًا وَنُسْقِيَهُ مِمَّا خَلَقْنَا أَنْعَامًا وَأَنَاسِيَّ كَثِيرًا) وقوله: (اللَّهُ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّيَاحَ فَتُثِيرُ سَحَابًا فَيَبْسُطُهُ فِي السَّمَاء كَيْفَ يَشَاء وَيَجْعَلُهُ كِسَفًا فَتَرَى الْوَدْقَ يَخْرُجُ مِنْ خِلَالِهِ فَإِذَا أَصَابَ بِهِ مَن يَشَاء مِنْ عِبَادِهِ إِذَا هُمْ يَسْتَبْشِرُونَ وَإِن كَانُوا مِن قَبْلِ أَن يُنَزَّلَ عَلَيْهِم مِّن قَبْلِهِ لَمُبْلِسِينَ فَانظُرْ إِلَى آثَارِ رَحْمَتِ اللَّهِ) وقوله (وَاللَّهُ الَّذِي أَرْسَلَ الرِّيَاحَ فَتُثِيرُ سَحَابًا فَسُقْنَاهُ إِلَى بَلَدٍ مَّيِّتٍ فَأَحْيَيْنَا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا)، وهذا التلقيح المذكور في الآية والذي تقوم به الرياح بين السحب على ثلاثة أنواع هي: تلقيح السحب الحارة بالباردة الأمر الذي يزيد التكاثف؛ فينتج عند ذلك نزول المطر، أما النوع الثاني فهو: تلقيح السحب ذات الشحنة الموجبة بالسحب ذات الشحنة السالبة؛ فيحدث التفريغ الذي ينتج الشرر الكهربائي أو الرعد، ويتمدد الهواء من جراء هذا التفريغ فينتج صوت الرعد،؛ وفي هذه الحالة يكون المطر مصحوباً بالبرق والرعد، أما النوع الثالث فهو: تلقيح الرياح للسحاب بنويات مكونة من الأملاح والاكاسيد والأتربة، وهذه النويات ضرورية في التكاثف؛ إذ يتجمع عليها جزئيات بخار الماء؛ فتصير نقطاً نامية داخل السحب، وهذا النوع الأخير أخذت منه فكرة (المطر الصناعي)؛ إذ تقوم بعض الطائرات برش السحب المكونة أصلاً ببعض المواد التي تعمل كنويات يتكاثف حولها المطر فينزل.

ـ[جمال الدين عبد العزيز]ــــــــ[12 May 2009, 09:47 م]ـ

2/ مراعاة الترابط القرآني:-

إن القرآن شديد الترابط والانسجام؛ فمقيده يقيد مطلقه وخاصه يخصص عامه، وليس ذلك فحسب بل إنه يفسر بعضه بعضاً؛ فربّ مفردة أو عبارة لم يُفهم معناها فلما رُجع إلى ما يفسرها من آيات أخرى _ اتضح المعنى وفهم المقصود؛ ومن ذلك على سبيل المثال أن الصحابة رضوان الله عليهم قد أشكل عليهم لفظ (الظلم) في قوله تعالى: (الَّذِينَ آمَنُواْ وَلَمْ يَلْبِسُواْ إِيمَانَهُم بِظُلْمٍ) فقالوا: أينا لم يلبث إيمانه بظلم فأرجعهم النبي صلى الله عليه وسلم إلى قوله تعالى: (إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ) ففسر الظلم بالشرك، وقد أورد البخاري ذلك في (باب ظلم دون ظلم) ولهذا فإنه قد اتضح أن المقصود بالظلم في الآيتين هو الشرك وذلك بخلاف الظلم في مواضع كثيرة أخرى من القرآن.

¥

طور بواسطة نورين ميديا © 2015