ـ[يسري خضر]ــــــــ[09 May 2009, 01:08 ص]ـ
كم من المسلمين في هذا العالم لا يقرأون القرآن .. ؟ وكم منهم يقرؤه بدون محاولة لفهمه .. ؟ وكم منهم إذا فهم معاني الكلمات يقرأ القرآن ولكن بدون تدبّر حقيقي ولا استيعاب؟ وكم منهم قد يفهم ويعي ما يقرأ ويجتهد في الاستيعاب، ولكنه لا يحرك ساكناً نحو تطبيق القرآن في حياته .. ؟ عن هذه المشكلة المعقّدة يتحدث علي عزت بيجوفيتش من واقع خبرته الشخصية وتأمّلاته في القرآن ...
كانت مشكلة فهم معاني القرآن ومقاصده حاضرة في عقل العالم الشيخ محمد الغزالي وهو يضع كتاب " نحو تفسير موضوعي لسور القرآن الكريم " وكتابه " المحاور الخمسة للقرآن الكريم " و كتابه " نظرات في القرآن " كذلك كانت هذه المشكلة حاضرة في ذهن العالم الشيخ يوسف القرضاوي في كثير من كتبه .. ومنها: كتاب " كيف نتعامل مع القرآن العظيم" و كتاب " تفسير سورة الرعد "، وكتاب " العقل والعلم في القرآن "، وكتاب " المرجعية العليا في الإسلام للقرآن والسنة: ضوابط ومحاذير في الفهم والتفسير ".
لم يكن أيّ من هذه الكتب موجوداً أمام علي عزت بيجوفيتش عندما شرع يكتب عن هذه المشكلة في مايو سنة 1977، ولم تكن قد تم تأليفها ونشرها بعد .. ولكنه أدرك المشكلة وعاناها، وفكر فيها (بالتأكيد قبل هذا التاريخ) .. ولسنا نتوقع أن يأتي بشيء جديد يمكن أن يضاف إلى ما قاله كلّ من الشّيْخين الجليلين .. لكن الجديد فيها (ربما) هو أنه يكتب من واقع تجربته الشخصية .. وتأمّلاته الخاصة في القرآن الكريم .. فهو يعترف بأنه قرأ القرآن مرّات ومرّات .. ولكنه لم يتساءل من قبل: كيف ينبغي عليه أن يقرأ القرآن .. ؟ ولا بد أنه أدرك أن هذه ليست مشكلته وحده بل مشكلة الكثيرين من أمثاله ممن يتعاملون مع القرآن .. ومن ثم رأى أن يكتب ليشرك الآخرين فيما توصّل إليه من أفكار وخواطر حول هذا الموضوع .. وفي ذلك كتب مبتدئاً بتوجيه النظر إلى حقيقة محورية هي من أخصّ خصائص القرآن .. قال:
" يجب أن نضع نصب أعيننا، قبل كل شيء، أن القرآن الكريم كلًٌّ لا يتجزأ. وكل آية فيه إذا أُخذت منفردة أو مُنتزعة من السياق العام لا تقدّم حقاً كاملاً، بل تقدم جزءاً من الحق، فنحن لا يمكن أن نعرف الحق كاملاً إلا إذا أخذنا القرآن كاملاً .. أما سرد بعض الآيات منفردة (وهو أمر لا مفرّ منه في الدرس أو الاستشهاد أو في أي تعامل آخر مع القرآن)، فلا بد أن يُفهم على خلفية فهمنا الكامل لمجمل القرآن، فالأمر هنا شبيه بلوحة الفسيفساء، كل قطعة فيها يتوقف معناها وقيمتها الجمالية على ما تعنيه في انسجامها مع بقية قطع اللوحة الكاملة. أما إذا أخذنا كل قطعة بمفردها فإنها لا تقدم إلا جزءاً أو لا تقدم شيئاً حقيقياً من جمال اللوحة الكاملة ... ".
ومن أجل مزيد من الإيضاح يضرب بيجوفيتش هذه الأمثلة:
آية قرآنية تشرّع للقصاص: {ياَ أيها الذين آمنوا كُتب عليكم القصاص في القتلى} (البقرة 178)، وآية أخرى تدعو إلى العفو والصفح: {وجزاءُ سيئةِ سيئةً مثلها، فمن عفا وأصلح فأجره علي الله، إنه لا يحب الظالمين} (الشورى 40)؛ أو آية تقول: {يا أيها الذين آمنوا لا تحرّموا طيّبات ما أحل الله لكم ولا تعتدوا إن الله لا يحب المعتدين} (المائدة 87) , وآية أخرى تقول: {ولا تمدّن عينيك إلى ما متّعنا به أزواجاً منهم زهرة الحياة الدنيا ... } (طه 131)، إلى غير ذلك من الأمثلة .. يقول بيجوفيتش:
"إن من يقرأ القرآن قراءة عابرة قد يخيل إليه وجود تناقض فيه، بينما الأمر ليس كذلك قطعاً .. فحقيقة الأمر أن المسألة تتعلق بأبدع وأرفع ميزة يمتاز بها القرآن والإسلام بصفة عامة .. وهي التجانس التام بين الأمور التي تبدو متناقضة للناظر إليها لأول وهلة .. إذ يجب أن نلاحظ ونفهم أن القرآن لا يطالبنا هنا بأمر واحد .. بل يطالبنا بأمرين معاً .. فهو لا يريد منا القصاص فقط لأنه يطالبنا أيضا بالعفو .. والعكس بالعكس؛ كما لا يفرض علينا السعي للآخرة وحدها لأنه يريد منا السعي لهذه الدنيا أيضاً، أي لا يطالبنا أبداً بالسعي لحياة دون أخرى. لذلك لا يتحقق كمال الإسلام في المسلمين الذين لا يعرفون غير العقاب (ولو كانوا على الحق) لأنهم لم يعفوا .. كما لا يتحقق كمال الإيمان في
¥